نص كتاب الإيقان



 الإغماض ﴿وَلا يَزِيدُ الكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَارًا٦.


ومن بعده طلع هيكل صالح من رضوان الغيب المعنوي، ودعا العباد إلى شريعة القرب الباقية، وفي مائة سنة أو أزيد، أمرهم بالأوامر الإلهية ونهاهم عن المناهي الربانية، فلم يأت ذلك بثمر، ولم يظهر منه أثر، فاختار الغيبة والعزلة عنهم مرات عديدة، مع إن هذا الجمال الأزلي، ما دعا الناس إلا إلى مدينة الأحدية، كما قال تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ۷. إلى قوله ﴿قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَـذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ٨، وما أتى ذلك بفائدة ما، إلى أن أخذتهم الصيحة جميعا، وكان مرجعهم إلى النار.


ومن بعده كشف الخليل النقاب عن جماله، ورفع علم الهدى، ودعا أهل الأرض إلى نور التقى، وكلما بالغ في النصيحة لهم، لم يثمر ذلك غير الحسد، ولم ينتج غير الغفلة، إلا الذين هم انقطعوا بكلهم إلى الله، وعرجوا بجناحي الإيقان إلى مقام جعله الله عن الإدراك مرفوعا.


وقصة حضرته مشهورة، فكم من الأعداء أحاطوا به إلى أن اشتعلت نار الحسد والإعراض. ومن بعد حكاية النار أخرجوا ذلك السراج الإلهي من بلده، كما هو مذكور في الكتب والرسائل.


ولما انقضى زمانه أتت دورة موسى، فظهر حضرته من سيناء النور إلى عرصة الظهور بعصا الأمر وبيضاء المعرفة. وأتى من فاران المحبة الإلهية، ومعه ثعبان القدرة والشوكة الصمدانية. ودعا جميع من في الملك الى ملكوت البقاء، وأثمار شجرة الوفاء. ولقد سمعت ما ورد عليه من فرعون وملأه من الاعتراضات، وكم ألقي على تلك الشجرة الطيبة من أحجار الظنونات من الأنفس المشركة، وبلغ الاعتداء عليه إلى حد أن هم فرعون وملأه بإخماد نار تلك السدرة الربانية وإطفائها بماء الإعراض والتكذيب. وغفلوا عن أن نار الحكمة الإلهية لا يخمدها الماء العنصري، وسراج القدرة الربانية لا تطفئه الأرياح المخالفة. بل إن الماء في هذا المقام يصير سببا للاشتعال، والريح علة للحفظ لو أنتم بالبصر الحديد تنظرون، وفي رضا الله تسلكون.


وما أحلى البيان الذي فاه به مؤمن آل فرعون، كما أخبر رب العزة حبيبه بحكايته قائلا ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ٩.


وأخيرا وصل الأمر الى حد أن قتلوا هذا المؤمن، واستشهد بنهاية العذاب ألا لعنة الله على القوم الظالمين. فانظروا الآن وتأملوا قليلا في هذه الأمور وماذا كان سبب أمثال هذه الاختلافات، إذ كلما ظهر ظهور حق في الإمكان من أفق اللامكان كان يظهر ويبدو في أطراف العالم أمثال هذا النوع من الفساد والفتنة والظلم والانقلاب، مع أن جميع الأنبياء كانوا يبشرون الناس في حين ظهورهم بالنبي التالي، ويذكرون لهم علامات الظهور الآتي، كما هو مسطور في كل الكتب. ومع طلب الناس وانتظارهم لظهور المظاهر القدسية، وذكر العلامات في الكتب، لماذا تحدث هذه الأمور في العالم، ويرد على جميع الأنبياء والأصفياء في كل عهد وعصر أمثال هذا الظلم والعسف والتعدي؟ كما قال تعالى: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ۱۰ أي أنه كلما جاءكم رسول من قبل الله بما لا تهوى أنفسكم في أي عهد وزمان استكبرتم، وما أيقنتم، ففريقا من هؤلاء الأنبياء كذبتم وفريقا كنتم تقتلون.


تأملوا حينئذ ماذا كان سبب هذه الأفعال، ولم كانوا يسلكون بهذه الكيفية مع طلعات جمال ذي الجلال؟ إذ كل ما كان سبب إعراض العباد وإغماضهم في تلك الأزمنة، قد أصبح اليوم أيضا بعينه سبب غفلة هؤلاء العباد. فإذا قلنا أن الحجج الإلهية لم تكن كاملة ولا تامة، ولذا كانت سببا لاعتراض العباد، فإن هذا يكون كفرا صراحا. لأنه بعيد جدا عن فيض الفياض، وبعيد عن واسع رحمته، أن يجتبي نفسا من بين جميع العباد لهداية خلقه، ولا يؤتيها الحجة الكافية الوافية، ومع ذلك يعذب الخلق لعدم إقبالهم إليها. بل لم يزل جود سلطان الوجود محيطا على كل الممكنات بظهور مظاهر نفسه، وما أتى على الإنسان حين من الدهر انقطع فيه فيضه، أو منع نزول أمطار الرحمة من غمام عنايته. إذا فليست هذه الأمور المحدثة إلا من الأنفس ذات الإدراكات المحدودة، الذين يهيمون في وادي الكبر والغرور، ويسيرون في بيداء البعد، ويتأسون بظنوناتهم، وبما استمعوه من علمائهم. لهذا لم يكن عندهم أمور غير الإعراض، ولا بغية إلا الإغماض، ومن المعلوم لدى كل ذي بصر، أنه لو كان هؤلاء العباد في حين ظهور أي مظهر من مظاهر شمس الحقيقة، يقدسون ويطهرون السمع والبصر والفؤاد من كل ما سمعوه وأبصروه وأدركوه، لما حرموا البتة من الجمال الإلهي، ولا منعوا عن حرم القرب والوصال للمطالع القدسية.


ولما كانوا يزنون الحجة في كل زمان بمعرفتهم التي تلقوها عن علمائهم، وكانوا يجدونها غير متفقة مع عقولهم الضعيفة، لذا كان يظهر منهم في عالم الظهور أمثال هذه الأمور غير المرضية.


إن علماء العصر في كل الأزمان كانوا سببا لصد العباد، ومنعهم عن شاطئ بحر الأحدية، لأن زمام هؤلاء العباد كان في قبضة قدرتهم. فكان بعضهم يمنع الناس حبا للرياسة، والبعض الاخر يمنعهم لعدم العلم والمعرفة. كما أنه بإذن علماء العصر وفتاويهم قد شرب جميع الأنبياء سلسبيل الشهادة، وطاروا إلى أعلى أفق العزة. فكم ورد على سلاطين الوجود، وجواهر المقصود، من ظلم رؤساء العهد، وعلماء العصر، الذين قنعوا بهذه الأيام المحدودة الفانية، ومنعوا أنفسهم عن الملك الذي لا يفنى، كما حرموا عيونهم من مشاهدة أنوار جمال المحبوب، ومنعوا آذانهم عن استماع بدائع نغمات ورقاء المقصود. ولهذا ذكرت أحوال علماء كل عصر في جميع الكتب السماوية كما قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ۱۱ وكما قال ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ۱۲ وكما قال تعالى في مقام آخر ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ۱۳.


ومن المعلوم أن أهل الكتاب الذين صدوا الناس عن الصراط المستقيم كانوا علماء ذلك العهد، كما هو مذكور اسم الجميع ورسمهم في الكتب، وكما هو مستفاد من أكثر الآيات والأخبار، لو أنتم بطرف الله تنظرون.


إذا تأملوا قليلا بعين البصيرة الإلهية، في آفاق العلم الرباني، وتعقلوا في أنفس الكلمات التامات الصمدانية، حتى تنكشف لكم وتظهر جميع أسرار الحكمة الروحانية، من خلف سرادق الفضل والإفضال، مجردة عن سبحات الجلال، وتعرفوا أن أساس اعتراضات الناس واحتجاجاتهم، لم يكن إلا من عدم الإدراك والعرفان. فمثلا إنهم لما لم يفهموا البيانات التي صدرت من طلعات جمال الحق، عن علامات الظهور الآتي، ولم يصلوا إلى معرفة حقيقتها، لذا رفعوا علم الفساد، ونصبوا رايات الفتنة.


ومن المعلوم أن تأويل كلمات الحمامات الأزلية لا يدركه إلا الهياكل الأزلية، وأن نغمات الورقاء المعنوية، لا يسمعها إلا مسامع أهل البقاء. فليس لقبطي الظلم نصيب أبدا من شراب سبطي العدل، ولا لفرعون الكفر خبر عن بيضاء موسى، كما قال تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ۱٤ ومع ذلك طلبوا تفسير الكتاب وتأويله من أهل الحجاب، ولم يأخذوا العلم من منبعه.


فمثلا لما انقضت أيام موسى، وأحاطت العالم أنوار عيسى الساطعة من فجر الروح، اعترض جميع اليهود بأن ذلك الموعود في التوراة، يجب أن يروج ويكمل شرائع التوراة. بينما هذا الشاب الناصري، الذي يدعو نفسه بمسيح الله، قد نسخ حكمي الطلاق والسبت، الذين هما أعظم أحكام موسى، فضلا عن أن علائم الظهور لم تظهر بعد، ولهذا لا يزال اليهود إلى الآن منتظرين ذلك الظهور المذكور في التوراة. ولكم ظهر في عالم الإبداع من بعد موسى، من مظاهر القدس الأحدية، ومطالع النور الأزلية، واليهود ما زالوا محتجبين بالحجبات النفسية الشيطانية، والظنونات الإفكية النفسانية، ولا يزالون ينتظرون ظهور ذلك الهيكل المجعول، بالعلامات المذكورة التي يتصورونها بإدراكاتهم، كذلكم أخذهم الله بذنبهم، وأخذ عنهم روح الإيمان، وعذبهم بنار كانت في هاوية الجحيم. ولم يكن هذا إلا من عدم عرفان اليهود للعبارات المسطورة في التوراة، والمذكورة في علائم الظهور التالي. ولما لم يقفوا على حقيقة هذه العلامات، ولم تظهر تلك الأمور بحسب الظاهر، فقد حرموا عن الجمال العيسوي، ولم يفوزوا بلقاء الله وكانوا من المنتظرين. وما زال جميع الأمم، ولا يزالون متمسكين بهذه الأفكار المجعولة غير اللائقة، وقد حرموا أنفسهم من العيون اللطيفة الصافية الجارية.


ولقد ذكرنا بعضا من عبارات الأنبياء، في كشف هذه الأسرار، في ألواح مسطورة من قبل، رقمناها لأحد من الأحباء ببدائع النغمات الحجازية.


والآن، إجابة لطلب جنابكم۱٥، نجدد ذكرها في هذه الأوراق بمليح التغنيات العراقية، لعل يهتدي بها عطاش صحارى البعد الى بحر القرب، ويصل الضالون في فيافي الهجر والفراق الى خيام القرب والوصال. حتى ينقشع غمام الضلالة وتطلع من أفق الروح شمس الهداية المضيئة على العالم، وعلى الله أتكل، وبه أستعين، لعل يجري من هذا القلم، ما يحيا به أفئدة الناس ليقومن الكل عن مراقد غفلتهم، ويسمعن أطوار ورقات الفردوس من شجر كان في الروضة الأحدية من أيدي القدرة بإذن الله مغروسا.


من الواضح المعلوم لدى أهل العلم، أنه لما أحرقت نار المحبة العيسوية حجبات حدود اليهود، ونفذ حكم حضرته نوعا ما حسب الظاهر، ذكر ذاك الجمال الغيبي في يوم من الأيام لبعض من أصحابه الروحانيين أمر الفراق، وأشعل فيهم نار الاشتياق قائلا لهم: ﴿إني ذاهب ثم أعود۱٦. وقال في مقام آخر: ﴿إني ذاهب ويأتي غيري حتى يقول ما لم أقله ويتمم ما قلته۱۷. وهاتان العبارتان هما في الحقيقة شيء


%
تقدم القراءة