نص كتاب الإيقان



حكم خلق جديد ورجوع جديد؟ ألم يشاهد أن هذه النفوس قبل الفوز بالعناية البديعة الجديدة الإلهية، كانت تحافظ على روحها ونفسها من موارد الهلاك بمائة ألف حيلة وتدبير؟ بحيث أنهم كانوا يحترزون من الإصابة بشوكة، ويفرون في المثل خوفا من ثعلب؟ ولكن بعد أن نالوا شرف الفوز الأكبر، والعناية العظمى، كانوا ينفقون في سبيل المحبوب أرواحهم بكل ارتياح، حتى ولو يكون للواحد منهم مائة ألف روح، لو استطاعوا إلى ذلك سبيلا. بل إن نفوسهم المقدسة كانت تتمنى الخلاص من قفص الجسد، وكان الفرد الواحد من هؤلاء الجنود يواجه قوما ويقاتلهم، مع ذلك لو تكون هذه النفوس هي عين النفوس الأولى، كيف يظهر منها أمثال هذه الأمورات، المخالفة للعادات البشرية، والمنافية للأهواء الجسمانية؟.


والخلاصة إن هذا المطلب واضح. إذ بدون حصول التغيير والتبديل الإلهي، يكون من المحال ظهور مثل هذه الآثار والأفعال منهم، وبروزها في عالم الكون مما ليس له شبيه بأي وجه من الوجوه بآثارهم وأفعالهم الأولى، حيث كان يتبدل اضطرابهم بالاطمئنان، ويتغير ظنهم باليقين، وينقلب خوفهم إلى جرأه وشجاعة. هذا هو شأن الإكسير الإلهي، الذي يقلب العباد في لحظة واحدة.


مثلا انظروا إلى مادة النحاس، إنها لو تحفظ في منجمها مدة سبعين سنة من غير أن تتجمد فإنها تصل إلى رتبة الذهب، ولو أن البعض يعتقد أن نفس النحاس هو ذهب استولى عليه المرض من تأثير الجمودة عليه فلم يبلغ إلى رتبته الذاتية.


والخلاصة إنه على أي حال يستطيع الإكسير الكامل تحويل مادة النحاس إلى ذهب في آن واحد، ويقدر على طي منازل السبعين سنة في لحظة واحدة. فهل يمكن أن يقال بعدئذ أن ذاك الذهب ما زال بعد نحاسا؟ وأنه لم يبلغ رتبة الذهب مع أن هناك محكا موجودا يمكنه أن يعين ويوضح الصفات الذهبية من الصفات النحاسية؟.


وهكذا حال هؤلاء النفوس، فإنهم بفضل الإكسير الإلهي يطوون العالم الترابي في آن واحد ويدخلون في العوالم القدسية. وبخطوة واحدة ينتقلون من المكان المحدود، ويصلون إلى العالم الإلهي المنزه عن المكان والحدود. فيجب بذل الجهد حتى تفوز بهذا الإكسير الذي في لحظة واحدة يوصل مغرب الجهل إلى مشرق العلم، ويبدل ظلمة الليل الظلماني بالصبح النوراني، ويهدي الهائمين في بيداء الظن إلى معين القرب واليقين، ويدخل الهياكل الفانية في الجنة الباقية. فالآن لو يصدق في حق هذا الذهب حكم النحاس ليصدق أيضا في حق هؤلاء العباد ويتحقق فيهم حكم أنهم هم هم نفس أولئك العباد قبل الفوز بالإيمان.


فانظر يا أخي كيف أن أسرار الخلق الجديد والرجوع والبعث هي ظاهرة بغير حجاب، ولائحة بلا نقاب من هذه البيانات الشافية الكافية الوافية. وإن شاء الله بفضل التأييدات الغيبية تخلع عن جسمك ونفسك الثياب الرثيثة، وتفتخر بارتدائك الخلع الجديدة الباقية.


لهذا فكل الذين سبقوا بالإيمان كل من على الأرض في أي ظهور لاحق، وشربوا زلال المعرفة من جمال الأحدية، وارتقوا إلى أعلى معارج الإيمان والإيقان والانقطاع، فهؤلاء يكون لهم حكم رجوع الأنفس الذين فازوا بهذه المراتب في الظهور السابق، وينطبق على هؤلاء الأصحاب في الظهور اللاحق حكم رجعة أصحاب الظهور السابق اسما ورسما وفعلا وقولا وأمرا، لأن ما ظهر من أولئك العباد في العهد السابق هو بعينه قد ظهر ولاح من هؤلاء العباد في العهد اللاحق. خذوا مثلا الورد، لو أنه يطلع من شجرة في شرق الأرض، ويطلع أيضا من شجرة أخرى في مغربها فإنه يكون وردا في الحالين، لأن الاعتبار في هذه الحالة لا يكون موجها إلى حدودات غصن الشجرة وهيئته، بل يكون موجها إلى الرائحة والعطر الظاهرين من كليهما.


إذا طهر النظر ونزهه عن الحدودات الظاهرة حتى ترى الجميع باسم واحد ورسم واحد وذات واحدة وحقيقة واحدة. وتدرك أيضا أسرار رجوع الكلمات في الحروفات النازلة. تأمل قليلا في الأصحاب الذين كانوا في عهد نقطة الفرقان، وكيف أنهم بالنفحات القدسية من الحضرة المحمدية صاروا منزهين ومقدسين ومنقطعين عن جميع الشؤونات البشرية والمشتهيات النفسية، وفائزين قبل كل أهل الأرض جميعا بشرف اللقاء، الذي هو عين لقاء الله، ومنقطعين عن كل ما سواه. وكيف أنهم كانوا ينفقون أرواحهم بين يدي ذلك المظهر – مظهر ذي الجلال كما عرفت وسمعت. والآن فاشهد نفس ذاك الثبوت والرسوخ والانقطاع، فإنه بعينه قد رجع في أصحاب نقطة البيان، كما شاهدت كيف أن هؤلاء الأصحاب قد رفعوا علم الانقطاع على رفرف الامتناع ببدائع وجود رب الأرباب.


وخلاصة القول إن هذه الأنوار قد ظهرت من مصباح واحد، وهذه الأثمار قد أتت من شجرة واحدة، فلا فرق ملحوظ بينهم في الحقيقة ولا تغيير مشهود. كل ذلك من فضل الله يؤتيه من يشاء من خلقه. ولنحترز إن شاء الله عن أرض النفي، ونتقدم إلى بحر الإثبات ، حتى نشاهد ببصر مقدس عن العناصر والأضداد العوالم الإلهية، من عوالم الجمع والفرق، والتوحيد والتفريق، والتحديد والتجريد، ونطير إلى أعلى أفق القرب والقدس لمعاني كلمات الحضرة الإلهية.


إذا قد أصبح معلوما من هذه البيانات بأنه لو تظهر طلعة من الطلعات الإلهية، في الآخر الذي لا آخر له، وتقوم على أمر قام به طلعة في الأول الذي لا أول له، فإنه في هذا الحين يصدق على طلعة الآخر حكم طلعة الأول. لأن طلعة الآخر الذي لا آخر له قد قامت بنفس الأمر الذي قام به طلعة الأول الذي لا أول له. ولهذا فإن نقطة البيان روح ما سواه فداه قد شبه شموس الأحدية بالشمس، ولو أنها تطلع من الأول الذي لا أول له إلى الآخر الذي لا آخر له، فإنما هي هي تلك الشمس. والآن لو يقال بأن هذه الشمس هي هي الشمس الأولية فهو صحيح. ولو يقال عنها بأنها رجوع تلك الشمس فهو صحيح أيضا. وكذلك يصدق من هذا البيان ذكر صيغة الختمية على طلعة البدء وذكر صيغة البدئية على طلعة الختم، لأن ما يقوم به طلعة الختم هو هو بعينه ما قام به جمال البدء.


وبالرغم من وضوح هذا المطلب لدى الشاربين من صهباء العلم والإيقان، فإنه مع ذلك، كم من النفوس بسبب عدم البلوغ إلى معناه، قد احتجبوا بذكر خاتم النبيين، وصاروا محجوبين وممنوعين عن جميع الفيوضات. مع أن الحضرة المحمدية قد قالت: (أما النبيون فأنا). وكذلك قالت: (إنني آدم ونوح وموسى وعيسى) كما سبقت الإشارة إلى ذلك. ومع هذا لم يتفكروا كيف أنه بعد أن جاز لذلك الجمال الأزلي أن يقول عن نفسه، إني آدم الأول، كيف لا يجوز له كذلك أن يقول إني آدم الآخر. وكما أطلق على نفسه أنه بدء الأنبياء أي آدم، كذلك بمثل هذه الكيفية يطلق على ذلك الجمال الإلهي أنه ختم الأنبياء أيضا. وهذا الأمر واضح جدا لأنه بعد أن صح على حضرته أنه بدء النبيين، كذلك يصح عليه بنفس هذه الكيفية أنه ختم النبيين.


ولقد امتحن جميع أهل الأرض في هذا الظهور بهذا المطلب حيث أن الأكثرين منهم قد تمسكوا بنفس هذا القول وأعرضوا عن صاحبه. وإنني لا أدري ماذا أدرك هؤلاء القوم من الأولية والآخرية للحق جل ذكره. إن يكن المقصود من الأولية والآخرية هي الأولية والآخرية في العالم الملكي، فإن عالم الملك لم يصل بعد إلى المنتهى، فكيف تصدق إذا الآخرية على تلك الذات الأحدية؟ بل إنه في هذا المقام تكون الأولية نفس الآخرية والآخرية عين الأولية.


وخلاصة القول إنه كما تصدق الآخرية على ذاك المربي للغيب والشهود في الأول الذي لا أول له، كذلك تصدق أيضا على مظاهره بنفس هذه الكيفية في الحين الذي يصدق فيه عليهم اسم الأولية يصدق فيه عليها أيضا اسم الآخرية. وفي الحين الذي يكونون فيه جالسين على سرير البدئية يكونون في نفس الحين مستقرين على عرش الختمية. ولو يكون لأحد بصر حديد، فإنه يشاهد بأن مظهر الأولية والآخرية والظاهرية والباطنية والبدئية والختمية، هم هؤلاء الذوات المقدسة والأرواح المجردة والأنفس الإلهية. ولو تكون طائرا في هواء قدس (كان الله ولم يكن معه من شيء)۱٦۰ لترى أن جميع هذه الأسماء لدى تلك الساحة معدومة عدما صرفا ومفقودة فقدا بحتا. وما كنت تحتجب أبدا بعدها بهذه الحجبات والإشارات والكلمات. فما أعلى وألطف هذا المقام الذي فيه لا يهتدي جبرائيل إلى السبيل بغير دليل ولا يستطيع الطير القدسي أن يطير فيه بغير إعانة غيبية.


والآن فافهم قول علي أمير المؤمنين حيث قال: (كشف سبحات الجلال من غير إشارة)۱٦۱. ومن جملة السبحات المجللة هم علماء العصر وفقهاء زمان الظهور الذين هم جميعا نظرا لعدم إدراكهم، واشتغالهم بالدنيا، وحبهم للرياسة الظاهرية، لم يذعنوا لأمر الله. بل أنهم كانوا لا يمدون آذانهم لاستماع النغمة الإلهية، ﴿بَلْ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُم في آذانِهِم۱٦۲. ولما كان العباد قد اتخذوهم أيضا أولياء من دون الله لذا هم منتظرون لرفض تلك الخشب المسندة وقبولهم. لأنه ليس لهم بصر ولا سمع ولا قلب ليميزوا به ويفرقوا من تلقاء أنفسهم بين الحق والباطل. مع أن جميع الأنبياء والأولياء والأصفياء قد أمروا العباد من قبل الله بأن يسمع كل بإذنه ويرى بعينه، مع ذلك ما اعتنوا بنصح الأنبياء بل صاروا تابعين لعلمائهم ولا زالوا لهم تابعين.


ولو أن مسكينا أو فقيرا عاريا عن لباس أهل العلم يقول: ﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ۱٦۳ ليقولن في جوابه: إن هؤلاء العلماء والفضلاء مع ما لهم من الرياسة الظاهرة، والألبسة الأنيقة اللطيفة، لم يفهموا ولم يدركوا الحق من الباطل، وأنت وأمثالك قد أدركته؟ ويتعجبون غاية العجب من مثل هذا القول، بالرغم من أن أمم السلف هم أكثر عددا منهم وأعظم قوة وأكبر شأنا. ولو تكون الكثرة ولباس العلم دليلا وشاهدا على العلم والصدق، لكانت الأمم السابقة البتة أولى بذلك منهم وأسبق.


وفضلا عن وجود هذه الفقرة فإنه من المعلوم الواضح أنه في جميع أحيان ظهور المظاهر القدسية، كان علماء عصرهم يصدون الخلق عن سبيل الحق، يشهد بذلك ما دون في جميع الكتب والصحف السماوية. فإنه ما بعث أحد من الأنبياء إلا وكان معرض البغض والإنكار والرد والسب من العلماء، قاتلهم الله بما فعلوا من قبل، ومن بعد كانوا يفعلون. والآن أي سبحات الجلال أعظم من هياكل الضلال هذه؟ والله إن كشفها أعظم الأمور وخرقها أكبر أعمال. وفقنا الله وإياكم يا معشر الروح، لعلكم بذلك في زمن المستغاث توفقون، ومن لقاء الله في أيامه لا تحتجبون.


وكذلك فإن من السبحات المجللة أيضا ذكر خاتم النبيين وأمثال تلك الإطلاقات، التي يعد كشفها من أعظم


%
تقدم القراءة