نص كتاب الإيقان



الأمور لدى هؤلاء الهمج الرعاع، الذين ظل جميعهم محتجبين بهذه الحجبات المحدودة والسبحات المجللة العظيمة، أما سمعوا نغمة طير الهوية القائل: (إني تزوجت بألف فاطمة، كل واحدة منهن كانت بنت محمد بن عبد الله خاتم النبيين)۱٦٤. فانظروا الآن كم من الأسرار مستورة في سرادق العلم الإلهي، وكم من جواهر علمه مكنونة في خزائن العصمة، حتى توقن بأن صنعه لم يكن له بداية ولن يكون له نهاية. وبأن فضاء قضائة أعظم من أن يحدد بالبيان، أو تطويه طيور الأفئدة. وأن تقديراته القدرية أكبر من أن تنتهي بإدراك نفس خلقه موجود من الأول الذي لا أول له إلى الآخر الذي لا آخر له. ومظاهر جماله لم يعرف لها من بداية، وستستمر إلى نهاية ما لا نهاية له. ففكر الآن في هذا البيان وتأمل كيف يصدق حكمه على جميع هاته الطلعات.


وكذلك فأدرك نغمة الجمال الأزلي حسين بن علي حيث يقول لسلمان ما مضمونه: (إني كنت مع ألف آدم، والمدة الفاصلة بين كل آدم وآدم خمسون ألف سنة. وقد عرضت على كل منهم ولاية أبي)۱٦٥. ثم يذكر من التفاصيل حتى يقول: (إني خضت ألف موقعة في سبيل الله بحيث أن أصغر موقعة وأقلها كانت مثل غزوة خيبر التي حارب فيها أبي وجاهد ضد الكفار)۱٦٦ فكد نفسك الآن وأجهدها حتى تفهم من هاتين الروايتين أسرار كل من الختم والرجع والصنع الذي لا أولية له ولا آخرية.


فالخلاصة يا حبيبي أن نغمة اللاهوت مقدسة عن أن تحد بحدود سمع أهل الناسوت وإدراكاتهم وأنى لنملة الوجود أن تطرق بقدمها في ساحة المعبود. مع ذلك فالنفوس الضعيفة بسبب عدم الإدراك تنكر هذه البيانات المعضلة وتنفي أمثال هذه الأحاديث. بلى لا يعرف ذلك إلا أولو الألباب. قل هو الختم الذي ليس له ختم في الإبداع، ولا بدء له في الاختراع. إذا يا ملأ الأرض في ظهورات البدء تجليات الختم تشهدون.


يا للعجب الشديد من أن هؤلاء القوم يتمسكون في بعض المراتب التي تطابق ميولهم وأهواءهم بأية منزلة في الفرقان، أو حديث من أحاديث أولي الإيقان. وفي بعض المراتب التي تغاير أهواءهم يعرضون بالمرة ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ۱٦۷ ما لكم كيف تحكمون ما لا تشعرون. مثل ذلك ما أنزله رب العالمين في الكتاب المبين بعد أن ذكر الختمية في قوله تعالى: ﴿وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ۱٦٨ وعد جميع الناس بلقائه، كما تشهد بذلك آيات الكتاب الدالة على لقاء مليك البقاء، مما قد ذكرنا بعضا منها. والله الأحد شاهد على هذا القول بأنه لم يذكر في الفرقان أمر أعظم من اللقاء، ولا أصرح منه. فهنيئا لمن فاز به في يوم أعرض عنه أكثر الناس كما أنتم تشهدون.


ومع ذلك صاروا معرضين بالحكم الأول عن الأمر الثاني بالرغم من أن حكم اللقاء في يوم القيامة منصوص في الكتاب. ولقد ثبت وتحقق بالدلائل الواضحة أن المقصود من القيامة هو قيام مظهره على أمره. وكذلك المقصود من اللقاء لقاء جماله في هيكل ظهوره. إذ أنه ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ۱٦٩. وبالرغم من جميع هذه المطالب الثابتة والبيانات الواضحة قد تمسكوا بذكر الختم من حيث لا يشعرون. وظلوا محتجبين بالمرة عن موجد الختم والبدء في يوم لقائه. ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى۱۷۰ وبصرف النظر عن هذه المراتب، لو كان هؤلاء القوم قد ذاقوا قطرة من العين اللطيفة عين يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لما كانوا يعترضون أبدا على محل الأمر بمثل هذه الاعتراضات غير المرضية - الأمر والقول والفعل في قبضة قدرته. كل شيء في قبضة قدرته أسير. وإن ذلك عليه سهل يسير. فاعل لما يريد وعامل بما يشاء. من قال لم وبم فقد كفر. ولو أن هؤلاء العباد يشعرون قليلا بما ارتكبوا ليهلكن في الحين وليقذفن أنفسهم بأيديهم إلى النار التي هي مقرهم ومرجعهم. أما سمعوا قوله تعالى: ﴿لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ۱۷۱ ومع وجود هذه البيانات كيف يقدر المرء أن يتجاسر ويسأله ويشتغل بزخارف القول.


سبحان الله قد بلغ جهل العباد وعدم عرفانهم إلى حد ومقام أصبحوا فيه مقبلين إلى علمهم وإرادتهم، ومعرضين عن علم الحق وإرادته جل وعز. فأنصفوا الآن لو يكون هؤلاء العباد موقنين بهذه الكلمات الدرية، والإشارات القدسية، ويعتقدون أن الحق يفعل ما يشاء كيف بعدئذ يتشبثون بهذه الزخارف من القول ويتمسكون بها بل إنهم كانوا يقرون بأرواحهم كل ما يقوله ويذعنون له. قسما بالله لو لم تسبق التقديرات المقدرة والحكم القدرية لأهلكت الأرض جميع هؤلاء العباد ولكن يؤخر ذلك إلى ميقات يوم معلوم.


الخلاصة قد انقضى ألف سنة ومايتان وثمانون من السنين من ظهور نقطة الفرقان، وجميع هؤلاء الهمج الرعاع يتلون الفرقان في كل صباح، وما فازوا للآن بحرف من المقصود منه، وهم يقرأون ويكررون بعض الآيات الصريحة في الدلالة على المطالب القدسية، وعلى مظاهر العز الصمدانية. ومع ذلك لم يدركوا شيئا منها بل إنهم عجزوا عن أن يدركوا في كل تلك المدة، أن المقصود من تلاوة الكتب وقراءة الصحف في كل عصر، هو لإدراك معانيها والبلوغ إلى معارج أسرارها. وإلا فالتلاوة بلا معرفة ليس منها البتة فائدة كلية.


ولقد حدث أن حضر شخص ذات يوم عند هذا الفقير إلى بحر المعاني، وجاء في سياق الحديث معه ذكر علائم القيامة والحشر والنشر والحساب. فأصر وألح على الاستفهام منا كيف تم حساب الخلائق في الظهور البديع مع أنه لم يطلع عليه أحد. فألقينا عليه حينئذ بعضا من الصور العلمية والشؤونات الحكمية على قدر إدراك السامع وفهمه. ثم قلنا له بعد ذلك، أفي كل تلك المدة لم تتل القرآن؟ وألم تر الآية المباركة التي تقول: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ۱۷۲؟ وألم تلتفت إلى أن المقصود من معنى السؤال ليس كما أدركتموه؟ بل إن السؤال ليس باللسان ولا بالبيان كما تشعر به وتدل عليه هذه الآية. لأنه يقول بعدها: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ۱۷۳.


إذن بهذا يكون حساب الخلائق من سيماهم، وظهور كفر الجميع وإيمانهم وعصيانهم من وجوههم، مثل ما هو مشهود اليوم من معرفة أهل الضلالة بسيماهم، وتمييزهم بها عن أصحاب الهداية. فلو أن هؤلاء العباد يمعنون النظر في آيات الكتاب خالصا لوجه الله وطلبا لرضائه ليدركون منها البتة جميع ما يطلبونه بدرجة أنهم يدركون من آياته ظاهرا مكشوفا كل الأمور الواقعة في هذا الظهور من الكلي والجزئي، حتى خروج مظاهر الأسماء والصفات من الأوطان، وإعراض الملة وإغماض الدولة، وسكون مظهر الكلية واستقراره في الأرض المعلومة المخصوصة. ولكن لا يعرف ذلك إلا أولو الألباب. أختم القول بما نزل على محمد من قبل ليكون ختامه المسك الذي يهدي الناس إلى رضوان قدس منير. قال وقوله الحق: ﴿واللهُ يَدْعُوا إلى دارِ السَّلامِ ويَهدي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقيمٍ۱۷٤. ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ۱۷٥. ليسبق هذا الفضل على العالم، والحمد لله رب العالمين.


لقد كررنا البيان في كل مطلب لعل يأخذ كل امرئ من الشريف والوضيع حظه ونصيبه من هذه البيانات على قدره واستعداده. وإذا ما عجز إنسان عن إدراك بيان، فإنه يدرك مقصوده من بيان آخر ليعلم كل أناس مشربهم.


قسما بالله إن لهذه الحمامة الترابية نغمات غير هاته النغمات، ولها رموز غير هذه البيانات، كل نكتة منها مقدسة عما سبق بيانه وجرى به القلم. فلتحدد المشيئة الإلهية الوقت الذي فيه تبرز عرائس المعاني من القصر الروحاني بغير حجاب، وتخطو بقدم الظهور في ساحة القدم. وما من أمر إلا بعد إذنه، وما من قدرة إلا بحوله وقوته، وما من إله إلا هو له الخلق والأمر، وكل بأمره ينطقون ومن أسرار الروح يتكلمون.


لقد سبق أن بينا من قبل أن للشموس المشرقة من المشارق الإلهية مقامين، أحدهما مقام التوحيد ورتبة التفريد كما سبقت الإشارة إليه من قبل ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ۱۷٦. وثانيهما مقام التفضيل ومقام عالم الخلق ورتبة الحدودات البشرية، ففي هذا المقام لكل واحد منهم هيكل معين، وأمر مقرر، وظهور مقدر، وحدود مخصوصة. بمثل ما إن كل واحد منهم موسوم باسم، وموصوف بوصف، ومأمور بأمر بديع، وشرع جديد، كما يقول: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ۱۷۷. وبالنظر لاختلاف هذه المراتب والمقامات تظهر بيانات وكلمات مختلفة من تلك الينابيع للعلوم السبحانية. وإلا في الحقيقة تعتبر جميعها لدى العارفين بمعضلات المسائل الإلهية في حكم كلمة واحدة. ولما لم يطلع أكثر الناس على المقامات المذكورة، لهذا يضطربون، ويتزلزلون من الكلمات المختلفة الصادرة من تلك الهياكل المتحدة.


إذن أصبح معلوما أزلا وأبدا، أن جميع هذه الاختلافات في الكلمات هي من اختلافات المقامات. ولهذا أطلقت ولا تزال تطلق على جواهر الوجود هؤلاء في مقام التوحيد وعلو التجريد، صفات الربوبية، والألوهية، والأحدية الصرفة، والهوية البحتة، لأن جميعهم ساكنون على عرش ظهور الله، وواقفون على كرسي بطون الله، أعني أن ظهور الله ظاهر بظهورهم، وجمال الله مشرق من وجوههم. لهذا قد ظهرت نغمات الربوبية من هذه الهياكل الأحدية.


ولكن في المقام الثاني الذي هو مقام التمييز والتفضيل والتحديد ومقام الإشارات والدلالات الملكية، تظهر منهم العبودية الصرفة، والفقر البحت، والفناء البات كما يقول: إني عبد الله، وما أنا إلا بشر مثلكم.


فأدرك من هذه البيانات المثبوتة المحققة مسائلك التي قد سألت عنها، حتى تكون راسخا في دين الله غير متزلزل من اختلافات بيانات الأنبياء والأصفياء.


وإذا ما سمع من المظاهر الجامعة: أني أنا الله، فهو حق ولا ريب فيه. إذ قد ثبت مرارا أن بظهورهم وبصفاتهم وبأسمائهم، يظهر في الأرض ظهور الله واسم الله وصفة الله. ولهذا يقول: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى۱۷٨


%
تقدم القراءة