نص كتاب الإيقان



وكذلك يقول: ﴿إِنَّ الّذينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ۱۷٩. وإذا ما تغنوا بنغمة: إني رسول الله، فإنه أيضا صحيح ولا شك فيه كما يقول: ﴿مَّا كَانَ محمّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللّهِ۱٨۰. وفي هذا المقام هم جميعا مرسلون من لدن ذاك السلطان الحقيقي والكينونة الأزلية.


وإذا ما نادى كل واحد منهم بنداء: أنا خاتم النبيين، فهو أيضا حق ولا سبيل إلى الريب فيه ولا طريق إلى الشبهة. لأن الجميع حكمهم حكم ذات واحدة، ونفس واحدة، وروح واحدة، وجسد واحد، وأمر واحد. وكلهم مظهر البدئية والختمية، والأولية والآخرية والظاهرية والباطنية لروح الأرواح الحقيقي وساذج السواذج الأزلي.


ولو يقولون: نحن عباد الله، فإن هذا أيضا ثابت وظاهر، حيث قد ظهروا في الظاهر بمنتهى رتبة العبودية. تلك العبودية التي لا يستطيع أحد في الإمكان أن يظهر بنحو منها. لذلك قد ظهرت أذكار الربوبية والألوهية من جواهر الوجود هؤلاء في حين استغراقهم في بحار القدس الصمدي، وارتقائهم إلى معارج المعاني للسلطان الحقيقي. وإذا ما نظر بعين التدقيق، يرى أنهم في هذه الرتبة قد اعتبروا أنفسهم في منتهى العدم والفناء أمام الوجود المطلق، والبقاء الصرف حتى كأنهم عدوا أنفسهم عدما صرفا، وجعلوا ذكرهم في تلك الساحة شركا. لأن مطلق الذكر في هذا المقام دليل على الوجود والبقاء. وإن هذا لخطأ كبير عند الواصلين، فكيف بذكر الغير أو اشتغال القلب واللسان والفؤاد والروح بغير ذكر المحبوب، أو ملاحظة العين غير جماله، أو إصغاء الأذن لغير نغمته، أو مشي الرجل في غير سبيله.


ولقد هبت نسمة الله في هذا الزمان وأحاطت روح الله من في الإمكان، فامتنع القلم عن الحركة، وتوقف اللسان عن البيان.


والخلاصة أنه بالنظر إلى هذا المقام قد ظهر منهم ذكر الربوبية وأمثالها. وفي مقام الرسالة أظهروا الرسالة، وهكذا في كل مقام جاءوا بذكر حسب اقتضائه، ونسبوا كل هذه الأذكار إلى أنفسهم، فهي أذكار من عالم الأمر إلى عالم الخلق، ومن عوالم الربوبية إلى العوالم الملكية، لهذا فمهما يقولون، ومهما يذكرون، من الألوهية والربوبية، والنبوة والرسالة، أو الولاية والإمامة، والعبودية، كله حق ولا شبهة فيه. إذن يجب التفكر في هذه البيانات التي استدللنا بها حتى لا يضطرب أحد بعدها، ولا يتزلزل من الاختلافات في أقوال المظاهر الغيبية، والمطالع القدسية.


والمقصود أنه يجب التفكر في كلمات شموس الحقيقة حتى إذا لم تدرك وتعرف يحب الاستفهام والسؤال عنها من الواقفين على مخازن العلم حتى يبينوها ويوضحوها، ويرفعوا الإشكال عنها. لأنهم يفسرون الكلمات القدسية بعقولهم القاصرة، وإذا لم يجدوها مطابقة لأهوائهم وما في أنفسهم، يقومون على الرد والاعتراض. وهكذا حال علماء العصر وفقهائه في هذا اليوم. من أولئك الذين يجلسون على مسند العلم والفضل، ويعتبرون الجهل علما، ويسمون الظلم عدلا، فإنهم لو يسألون شمس الحقيقة عن مجعولات أفكارهم، ولو إنهم يسمعون منها جوابا غير مطابق لما فهموه، أو لما أدركوه من الكتاب بأنفسهم، فإنهم البتة ينفون العلم عن معدن العلم ومنبعه، كما وقع هذا في كل الأزمان.


ومثل ذلك حدث في آية الروح التي تقول ﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي۱٨۲، فإنه لما ذكر لهم هذا الجواب صاحوا جميعا محتجين قائلين: وا ويلاه من جاهل لا يعرف ما هي الروح، ويعد نفسه عالما بالعلم اللدني. واليوم حيث أن علماء العصر يفتخرون باسم حضرته وقد رأوا آباءهم مذعنين له أيضا، فلذلك هم قابلون لحكمه بالتقليد. وأنصفوا لو أنهم يسمعون اليوم مثل هذا الجواب في الإجابة عن أمثال هذه المسائل. فإنهم لا بد يردون ويعترضون ويعيدون نفس كلمات السابقين كما فعلوا. مع أن جواهر الوجود هؤلاء مقدسون عن كل هذه العلوم المجعولة، ومنزهون عن جميع هذه الكلمات المحدودة، ومتعالون عن إدراك كل مدرك. كل هذه العلوم تلقاء ذاك العلم كذب صرف، وجميع هذه الإدراكات إفك محض. بل إن كل ما يظهر من معادن الحكمة الإلهية ومخازن العلم الصمداني فهو عين العلم. وحديث (العلم نقطة كثرها الجاهلون)۱٨۳ دليل عليه، وحديث (العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء)۱٨٤ مثبت لهذا البيان.


وخلاصة القول أنه لما لم يدركوا معنى العلم، وسموا أفكارهم الوهمية الناشئة من مظاهر الجهل علما لذا قد ورد منهم على مبدأ العلوم ما قد رأيت وسمعت.


فمثلا، إن أحدا من العباد المشهور بالعلم والفضل، والذي يعد نفسه من صناديد القوم، قد رد وسب جميع العلماء الراشدين في كتابه، كما هو مشهود في كل موقع منه تلويحا وتصريحا. ولما كان هذا العبد قد سمع كثيرا عن ذكره، أردت أن أتصفح قليلا في رسائله، رغم أن هذا العبد ما كان له ميل للإقبال على النظر في كلمات الغير ولن يكون. إلا أنه لما سأل جمع عن أحواله واستفسروا عنه، لهذا صار لزاما علينا أن ننظر قليلا في كتبه، ونجيب السائلين بعد الاطلاع والمعرفة.


والخلاصة أن مؤلفاته باللغة العربية لم يتفق وقوعها في يدنا حتى أخبرنا شخص ذات يوم بأنه يوجد في هذا البلد كتاب له يسمى بإرشاد العوام. ولو أنه يشتم من هذا الاسم رائحة الكبر والغرور، حيث فرض نفسه عالما والناس جهلاء. وفي الحقيقة قد عرفت جميع مراتبه من اسم هذا الكتاب، وثبت بأنه سالك سبيل النفس والهوى، وساكن في تيه الجهل والعمى، كأنه نسي الحديث المشهور القائل: (العلم تمام المعلوم، والقدرة والعزة تمام الخلق)۱٨٥. فمع هذا طلبنا الكتاب، ومكث عند هذا العبد أياما معدودات، وكأننا نظرنا فيه مرتين، وتصادف في المرة الثانية أن وقع نظرنا على موضع فيه حكاية معراج سيد (لولاك)، إشارة إلى الحديث (لولاك لما خلقت الأفلاك)۱٨٦. فلاحظنا أنه دون نحوا من عشرين علما أو يزيد، وجعلها شرطا لمعرفة المعراج. وكذلك عرفنا منه بأنه لو كانت نفس لا تدرك هذه العلوم حق إدراكها، فإنها لا تفوز بمعرفة هذا الأمر العالي المتعالي. ومن جملة العلوم التي ذكرها، علم الفلسفة، وعلم الكيميا، وعلم السيميا. وجعل إدراك هذه العلوم الفانية المردودة شرطا لإدراك العلوم الباقية القدسية.


سبحان الله مع هذا الإدراك، كم من الاعتراضات والتهم قد وردت منه على هياكل العلم الإلهي غير المتناهي؟ فنعم ما قال: (أتتهم الذين جعلهم الله أمناء على خزائن السبع الطباق)۱٨۷ ولم يلتفت إلى هذه المزخرفات من الأقوال أحد من أهل البصيرة. إن أمثال هذه العلوم لم تزل ولا تزال مردودة عند الحق. وكيف يكون إدراك العلوم المردودة عند العلماء الحقيقيين شرطا من شروط إدراك معارج المعراج، مع أن صاحب المعراج ما حمل حرفا من هذه العلوم المحدودة المحجوبة! والقلب المنير، قلب سيد لولاك كان مقدسا ومنزها عن جميع هذه الإشارات فنعم ما قال: (كل الإدراكات محمولة على الحمر العرجاء بينما الحق راكب على الريح ومنطلق كالسهم)۱٨٨. فوالله لو يريد إنسان إدراك سر المعراج أو تناول قطرة من عرفان هذا البحر، ويكون لديه أيضا هذه العلوم، بمعنى أن مرآة قلبه تكون مغبرة من نقوش هذه العلوم، يجب عليه حتما أن ينظفها ويطهرها، حتى يتجلى سر هذا الأمر في مرآة قلبه.


واليوم ينهى الناس عن تحصيل هذه العلوم المنغمسون في بحر العلوم الصمدانية، والساكنون في فلك الحكمة الربانية. فصدورهم المنيرة بحمد الله منزهة عن هذه الإشارات، ومقدسة عن تلك الحجبات. ولقد حرقنا الحجاب الأكبر بنار محبة المحجوب، ذاك الحجاب الذي قيل فيه – (العلم حجاب الأكبر)۱٨٩ – وأقمنا مكانه سرادقا آخر. وبهذا نفتخر ولله الحمد بأننا أحرقنا سبحات الجلال بنار جمال المحبوب، ولم نترك في القلب والفؤاد محلا لغير المقصود، وما كنا متمسكين بعلم غير علمه، ولا متشبثين بمعلوم غير تجلي أنواره.


والخلاصة إني تعجبت كثيرا، حيث لم أر في أقواله هذه إلا أنه يريد أن يعرف الناس بأن لديه جميع هذه العلوم ومع ذلك أقسم بالله بأنه ما مر عليه نسيم من رياض العلم الإلهي، وما اطلع على حرف من أسرار الحكمة الربانية، بل لو يقال له معنى العلم ليضطرب حتما، وليندك جبل وجوده. ومع هذه الأقوال السخيفة التي لا معنى لها، كم ادعى من الادعاءآت الزائدة عن الحد.


سبحان الله كم أتعجب من أناس ملتفين حوله، وتابعين لمثل هذا الشخص، حيث قنعوا بالتراب وأقبلوا إليه، وأعرضوا عن رب الأرباب، واكتفوا بنعيق الغراب عن نغمة البلبل، وقنعوا بمنظر غراب البين عن جمال الورد. وعلاوة على ذلك، كم لاحظنا من أشياء أخرى من الكلمات المجعولة في هذا الكتاب. في الحقيقة إنه لمن الظلم أن ينشغل القلم بتحرير ذكر تلك المطالب أو يصرف الوقت فيها، ولكن إذا وجد المحك يعرف الحق من الباطل، والنور من الظلمة، والشمس من الظل.


ومن جملة العلوم التي يدعيها هذا الشخص صنعة الكيميا. وإنني لأتوق أن يطلب منه سلطان أو شخص مقتدر ظهور هذا العلم من عالم اللفظ إلى عالم الشهود، ومن حيز القول إلى حيز الفعل. وهذا العاري عن العلم الفاني، مع كونه ما ادعى أمثال هذه العلوم، ولا اعتبر وجودها دليلا على العلم، أو فقدانها علة للجهل، فإني أتحدى هذا الرجل في هذه الفقرة، حتى يتضح الصدق من الكذب. ولكن ما الفائدة وأنا لم أر من أناس هذا الزمان إلا جرح السنان، ولم أذق شيئا منهم غير السم القاتل. وإلى الآن لا يزال أثر الحديد باقيا في عنقي، وعلائم التعذيب ظاهرة في كل بدني.


وأما عن مراتب علمه وجهله، وعرفانه وإيقانه، فقد ورد ذكرها في الكتاب الذي ما فرط فيه من شيء، ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ۱٩۰ ثم يتفضل بذكر آية أخرى حتى ينتهي بهذه الآية ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ۱٩۱ فانظر كيف أن وصفه مذكور في محكم الكتاب


%
تقدم القراءة