نص كتاب الإيقان



الحقيقي. ولكن لما لم يكن كل الناس على شأن واحد، ولا من رتبة واحدة، لهذا نذكر بضعة من الأحاديث حتى يكون سببا لاستقامة الأنفس المتزلزلة واطمئنان العقول المضطربة، وكذلك لتكون الحجة الإلهية تامة وبالغة على العباد من الأعالي والأداني.


فمن جملة الأحاديث الواردة هذا الحديث حيث يقول (إذا ظهرت راية الحق لعنها أهل الشرق والغرب)۲۲٩. فالآن ينبغي أن ترتشف قليلا من صهباء الانقطاع والاستقرار على رفرف الامتناع وأن يكون نصب العين (تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة)۲۳۰ لكي يتبين لك ما هو سبب هذا الأمر الشنيع، في أن كل الناس مع إظهارهم الحب والطلب للحق يلعنون أهل الحق بعد ظهوره كما يستفاد من الحديث وهذا واضح. إذ أن السبب هو نسخ القواعد والرسوم والعادات والآداب التي تقيد بها كل الناس. وإلا لو أن جمال الرحمن يسير حسب تلك الرسوم والآداب التي كان عليها الناس، ويصدقهم فيما هم عليه، فلا يكون هناك داع لظهور كل هذا الاختلاف والفساد في الممالك ومما يثبت هذا الحديث الشريف ويصدقه قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ۲۳۱.


وخلاصة القول إنه لما يدعو الناس منادي الأحدية، من وراء الحجبات القدسية إلى الانقطاع التام عما في أيديهم وحيث أن هذا النداء الإلهي مخالف لأهوائهم لذلك يظهر كل هذا الافتتان والامتحان. والآن انظر إلى الناس كيف أنهم لا يذكرون أبدا هذه الأحاديث المحكمة التي ظهرت جميعها، ولكنهم يتمسكون بالأحاديث التي لا يعلم صحتها من سقمها، ويقولون عنها لماذا لم تظهر؟ والحال إن ما لم يتعقلوه أيضا قد ظهر وبهر، ولاحت آثار الحق وعلاماته كالشمس في وسط السماء. مع ذلك بقي العباد هائمين في تيه الجهل والعمى. وبالرغم من الآيات الفرقانية العديدة، والروايات المحققة التي تدل جميعها على شرع جديد وحكم جديد، وأمر بديع، فإنهم مع ذلك ينتظرون بأن طلعة الموعود يحكم على وفق شريعة الفرقان، كما يقول اليهود والنصارى بمثل هذا المقال.


ومن جملة الكلمات الدالة على الشرع الجديد والأمر البديع، فقرات دعاء الندبة للإمام علي التي تقول: (أين المدخر لتجديد الفرائض والسنن وأين المتخير لإعادة الملة والشريعة)۲۳۲ ويقول أيضا في الزيارة (السلام على الحق الجديد)۲۳۳. سئل أبو عبد الله عن سيرة المهدي كيف سيرته قال: (يصنع ما صنع رسول الله، ويهدم ما كان قبله كما هدم رسول الله أمر الجاهلية)۲۳٤.


فانظر الآن كيف أنه مع وجود أمثال هذه الروايات، كم من استدلالات يستدلون بها على عدم تغيير الأحكام. مع أن المقصود من كل ظهور التغيير والتبديل في أركان العالم سرا وجهرا، وظاهرا وباطنا. إذ أنه لو لم يتغير أمورات الأرض بأي وجه من الوجوه فإن ظهور المظاهر الكلية يكون لغوا وباطلا. ومع أنه يقول في كتاب "العوالم" الذي هو من الكتب المشهورة المعتبرة. (يظهر من بني هاشم صبي ذو كتاب وأحكام جديد إلى أن قال وأكثر أعدائه العلماء)۲۳٥. وفي مقام آخر يذكر عن الصادق بن محمد أنه قال: (ولقد يظهر صبي من بني هاشم، ويأمر الناس ببيعته. وهو ذو كتاب جديد، يبايع الناس بكتاب جديد على العرب شديد. فإن سمعتم منه شيئا فأسرعوا إليه)۲۳٦. فما أحسن اتباعهم لوصية أئمة الدين وسرج اليقين مع أنه يقول: إذا سمعتم بأن شابا من بني هاشم قد ظهر ويدعو الناس إلى كتاب إلهي جديد وأحكام بديعة ربانية، فأسرعوا إليه. مع ذلك قد حكم الجميع على ذاك السيد، سيد الإمكان، بالكفر والخروج من الإيمان. وما ذهبوا إلى ذاك النور الهاشمي والظهور السبحاني، إلا بسيوف مسلولة، وقلوب طافحة بالبغضاء. ثم لاحظوا أيضا كيف أن عداوة العلماء مذكورة في الكتب بمنتهى الصراحة. ومع وجود هذه الأحاديث الظاهرة المدلة، والإشارات الواضحة المحققة، فإن جميع الناس قد أعرضوا عن الجوهر الصافي للمعرفة والبيان، وأقبلوا إلى مظاهر الضلالة والطغيان. ومع هذه الروايات الواردة والكلمات النازلة، فإنهم يتكلمون بما تهوى أنفسهم. ولو ينطق جوهر الحق ببيان يكون مخالفا لأهواء هذه الفئة، وما في أنفسهم، فإنهم يكفرونه في الحال ويقولون بأن هذا مخالف لقول أئمة الدين، وذوي النور المبين. وإنه ما صدر في الشرع المتين أمر وحكم كهذا، كما ظهر ويظهر اليوم من هذه الهياكل الفانية أمثال هذه الأقوال التي لا فائدة فيها.


وانظر الآن في هذه الرواية الأخرى كيف أنهم قد أخبروا عن جميع هذه الأمور قبل وقوعها، فقد ذكر في كتاب "الأربعين"۲۳۷ (يظهر من بني هاشم صبي، ذو أحكام جديدة فيدعو الناس ولم يجبه أحد. وأكثر أعدائة العلماء. فإذا حكم بشيء لم يطيعوه. فيقولون هذا خلاف ما عندنا من أئمة الدين)۲۳٨. إلى آخر الحديث. كما يعيد الجميع اليوم هذه الكلمات وهم لا يشعرون بأن حضرته جالس على عرش يفعل ما يشاء، ومستقر على كرسي يحكم ما يريد.


إن كيفية ظهوره لا يسبقها إدراك أي مدرك وقدر أمره لا يحيط به عرفان أي عارف، وجميع الأقوال منوطة بتصديقه، وكل الأمور محتاج لأمره، وما سواه مخلوق بأمره، وموجود بحكمه. وهو مظهر الأسرار الإلهية، ومبين الحكم الغيبية الصمدانية كما ورد في كتاب "بحار الأنوار"۲۳٩، وفي "العوالم"۲٤۰، وفي "الينبوع"۲٤۱ عن الصادق بن محمد أنه قال: (العلم سبعة وعشرون حرفا، فجميع ما جاءت به الرسل حرفان ولم يعرف الناس حتى اليوم غير الحرفين. فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرين حرفا)۲٤۲. فانظر الآن كيف أنه جعل العلم سبعة وعشرين حرفا. وأن جميع الأنبياء من آدم إلى الخاتم قد بينوا حرفين منه، وبعثوا بهذين الحرفين. ويقول بأن القائم يظهر جميع هذه الخمسة والعشرين حرفا. فاعرف من هذا البيان مقام حضرته وقدره، وكيف أن قدره أعظم من كل الأنبياء، وأمره أعلى وأرفع من عرفان وإدراك كل الأولياء. وأن الأمر الذي ما اطلع عليه الأنبياء والأولياء والأصفياء، أو ما أظهروه بأمر مبرم إلهي، مثل هذا الأمر. يزنه هؤلاء الهمج الرعاع بعقولهم وعلومهم ومداركهم القاصرة. فإذا لم يطابق موازينهم يرفضونه. ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً۲٤۳.


فعلى أي وجه يحملون هذا الحديث المذكور الصريح في الدلالة على ظهور المطالب الغيبية، والأمورات البديعة الجديدة في أيام حضرته. وأن هذه الأمورات البديعة تصبح سببا في اختلاف الناس بدرجة يحكم جميع العلماء والفقهاء بقتل حضرته، وقتل أصحابه. ويقوم كل أهل الأرض على مخالفته ومعارضته، كما يقول في كتاب "الكافي"۲٤٤، في حديث جابر في "لوح فاطمة" في وصف القائم (عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيوب فيذل أولياؤه في زمانه، وتتهادى رؤوسهم كما تتهادى رؤوس الترك والديلم، فيقتلون ويحرقون، ويكونون خائفين مرعوبين وجلين، تصبغ الأرض بدمائهم ويفشو الويل والرنة في نسائهم. أولئك أوليائي حقا)۲٤٥. فانظر الآن كيف أنه لم يبق حرف من هذا الحديث إلا وقد ظهر بحيث أن دمهم الشريف قد سفك في أكثر الأماكن وأسروهم في كل بلد، وأداروا بهم في الولايات والمدن والبلدان وأحرقوا بعضا منهم بالنار. ومع ذلك لم يفكر أحد منهم بأنه لو كان القائم الموعود يظهر بالشريعة السابقة، ويبعث بأحكامها، فلم ذكرت هذه الأحاديث؟ ولماذا تظهر كل هذه الاختلافات، حتى يجعلوا قتل هؤلاء الأصحاب واجبا، ويعدون أذية هذه الأرواح المقدسة سببا للوصول إلى معارج القرب؟


وفضلا عن هذا، فانظر كيف أن جميع هذه الأمور الواردة والأفعال النازلة قد ذكرت من قبل في الأحاديث كما يقول في "روضة الكافي"۲٤٦ في بيان الزوراء: (وفي روضة الكافي عن معاوية بن وهب عن أبي عبدالله قال: أتعرف الزوراء؟ قلت: جعلت فداك، يقولون إنها بغداد. قال: لا ثم قال: دخلت الري؟ قلت: نعم. قال: أتيت سوق الدواب؟ قلت: نعم. قال: رأيت الجبل الأسود عن يمين الطريق؟ تلك الزوراء يقتل فيها ثمانون رجلا من ولد فلان كلهم يصلح للخلافة. قلت: من يقتلهم؟ قال: يقتلهم أولاد العجم)۲٤۷.


هذا حكم أصحاب حضرته وأمرهم الذي بينوه من قبل. والآن لاحظوا أن الزوراء الموافقة لهذه الرواية هي أرض الري. وفي ذلك المكان قد قتل هؤلاء الأصحاب بأشد أنواع العذاب. وقد قتل العجم جميع هذه الوجودات القدسية كما هو مذكور في الحديث، وكما سمعتم وعرفتم، وكما هو واضح ومثبوت لكل العالم والآن لم لا يتفكر هؤلاء الخراطين، خراطين الأرض، في هذه الأحاديث التي تحققت جميعها، وظهرت كالشمس في وسط السماء، ولم لا يقبلون إلى الحق ويتمسكون ببعض الأحاديث التي لم يفهموا معناها؟ وبذا أعرضوا عن ظهور الحق وجمال الله واستقروا في سقر: إن هذه الأمور ليست إلا من إعراض فقهاء العصر وعلماء العهد، ولهذا يقول الصادق بن محمد (فقهاء ذلك الزمان شر فقهاء تحت ظل السماء منهم خرجت الفتنة وإليهم تعود)۲٤٨؟


وإني لأرجو من فقهاء البيان وعلمائهم، أن لا يقتفوا أثرهم في هذا الطريق، وأن لا يرد منهم في زمن المستغاث على الجوهر الإلهي، والنور الرباني، والجمال الأزلي، ومبدأ المظاهر الغيبية ومنتهاها، ما ورد في هذا الكور. وأن لا يعتمدوا على عقولهم وعلومهم ومداركهم. وأن لا يتخاصموا مع مظهر العلوم الربانية التي لا تتناهى. وبالرغم من كل هذه الوصايا فإنا نرى أعورا من رؤساء القوم يقوم على معارضتنا بمنتهاها. وكذلك نرى أنهم في كل بلد سيقومون على نفي ذاك الجمال القدسي، وإن أصحاب ذاك السلطان، سلطان الوجود وجوهر المقصود، يفرون في الجبال وفي الصحاري، ويختفون من أيدي الظالمين، والبعض منهم يتوكلون على الله، وينفقون أرواحهم بكمال الانقطاع. وكأني أشاهد أن من هو موصوف ومعروف بكمال الزهد والتقوى، على شأن يعد جميع الناس إطاعته فرضا والتسليم لأمره واجبا يقوم على المحاربة مع أصل تلك الشجرة الإلهية، ويسعى لمعارضتها بكمال الجد والاجتهاد. هذا هو شأن الناس.


أما أهل البيان، فلي أمل أنهم يتربون ويطيرون في هوآء الروح ويسكنون في فضائه، ويميزون الحق عن غيره، ويدركون غش الباطل بالبصيرة النيرة. ولو أنه في هذه الأيام قد هبت رائحة حسد، فإني أقسم بمربي الوجود من الغيب والشهود، بأنه من أول بداية وجود العالم، مع كونه لا بداية له، إلى هذا الحين، ما ظهر مثل هذا الغل والحسد والبغضاء، ولن يظهر شبهه أبدا. حيث أن جمعا من الذين لم يستنشقوا رائحة الإنصاف قد رفعوا رايات النفاق، واتفقوا على مخالفة هذا العبد. فبرز من كل جهة رمح، وطار من كل سمت سهم مع أني ما افتخرت على أحد في أمر، وما استعليت على نفس. وكنت مع كل إنسان صديقا بمنتهى المحبة، ورفيقا بغاية الرأفة والشفقة، كنت مع الفقراء مثل الفقراء، ومع العلماء والعظماء بكمال التسليم والرضاء. مع


%
تقدم القراءة