نص كتاب الإيقان



ذلك، فوالله الذي لا إله إلا هو مع كل هذا الابتلاء والبأساء والضراء التي وردت علينا من الأعداء وأولي الكتاب، إنها كانت كالعدم الصرف، والفقد البحت، بالنسبة لما ورد علينا من الأحباء.


وبالاختصار، ماذا نقول من البيان بعد هذا مما لا طاقة للإمكان أن يحتمله، إن كان هناك إنصاف؟ إن هذا العبد في أوائل أيام وروده في هذه الأرض، لما رأى علائم الحوادث المقبلة، اختار المهاجرة قبل وقوعها، وهام في فيافي الفراق. وقضيت اثنين من السنين وحيدا في براري الهجر فجرت العبرات من عيوني كالعيون، وسالت بحور الدم من قلبي. فكم من ليال لم أجد قوتا، وكم من أيام لم أجد للجسد راحة. ومع كل هذه البلايا النازلة، والرزايا المتواترة، فوالذي نفسي بيده كان كمال السرور موجودا، ونهاية الفرح مشهودا. حيث لم يكن عندي خبر من ضر أحد أو نفعه، وصحته أو سقمه. كنت مشغولا بنفسي، نابذا ورائي العالم وما فيه. وما كنت أدري أن شرك قضاء الله أوسع من ميدان الخيال، وسهم تقديره مقدس عن التدبير. فلا نجاة لأحد من شرك قضائه، ولا مفر له إلا بالرضاء في إرادته.


قسما بالله لم يكن عندي نية الرجوع من هذه المهاجرة، ولا أمل في العودة من هذا السفر. وكان مقصودي من ذلك أن لا أكون علة اختلاف الأحباب، ولا مصدر انقلاب الأصحاب. وأن لا أكون سببا في ضر أحد، ولا علة لحزن قلب. فلم يكن في فكري قصد آخر غير ما ذكرت، ولا أمام نظري أمر سواه. ولو أن كل إنسان قد حمله على غير محمله، وفسره على حسب أهوائه وأمياله. وأخيرا صبرنا إلى أن صدر حكم الرجوع من مصدر الأمر، ولا بد من التسليم له.


فرجعنا ولاحظنا بعد الرجوع ما يعجز القلم عن ذكره. وها قد مضى الآن سنتان، والأعداء قائمون بنهاية الجد والاهتمام على إهلاك هذا العبد الفاني، كما هو معلوم عند الجميع. مع ذلك ما قام أحد من الأحباب لنصرتنا، وما أعاننا بأي وجه من الوجوه. بل عوضا عن النصر كان يرد علينا من الأحزان المتوالية والمتواترة، من قولهم وفعلهم ما هو كالغيث الهاطل. وهذا العبد قائم أمام الوجوه وواضع روحه على كفه بكمال التسليم والرضاء، عسى بالعناية الإلهية والفضل السبحاني ينفق هذا الحرف المذكور المشهور روحه، ويفدي بها في سبيل النقطة الأولى، والكلمة العليا. ولو لم يكن عندي هذه النية، فوالذي نطق الروح بأمره، إني ما كنت أتوقف في هذا البلد لحظة واحدة، وكفى بالله شهيدا أختم القول بلا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.


إن أصحاب الأفئدة المنيرة الذين شربوا من صهباء الحب، وما اتبعوا النفس والهوى بمقدار خطوة واحدة، يشهدون ويرون أن الدلائل والبراهين والحجج التي تدل جميعها على هذا الأمر البديع والظهور الإلهي المنيع، لهي أظهر من الشمس في الفلك الرابع. فانظر الآن إلى إعراض الخلق عن الجمال الإلهي، وإقبالهم إلى أهوائهم النفسانية. ومع هذه الآيات المتقنة والإشارات المحكمة الموجودة في الثقل الأكبر، الذي هو الوديعة الربانية بين العباد. ومع هذه الأحاديث الواضحة التي هي أصرح من البيان والتبيان، فقد صاروا عنها جميعا غافلين، ومعرضين متمسكين بظاهر بضعة أحاديث، لم يجدوها مطابقة لمداركهم، ولم يفهموا معانيها. وبذا صاروا محرومين من سلسال خمر ذي الجلال، ومأيوسين من الزلال الباقي للجمال السرمدي.


انظر أيضا أن سنة ظهور تلك الهوية النوراء، قد ذكرها أئمة الهدى أيضا في الأخبار والأحاديث، مع ذلك ما استشعروا وما انقطعوا، ولو في لحظة واحدة، عن أهواء أنفسهم فقد ورد في حديث المفضل أنه سأل الصادق: فكيف يا مولاي في ظهوره. فقال: (في سنة الستين يظهر أمره ويعلو ذكره)۲٤٩ هذا وإني لفي حيرة من هؤلاء العباد، كيف أنهم احترزوا عن الحق مع هذه الإشارات الواضحة اللائحة، حتى أنه مثلا قد ورد في الأخبار والأحاديث السابقة، ذكر الحزن والسجن والابتلاء الذي ورد على خلاصة تلك الفطرة الإلهية. ففي كتاب "البحار"۲٥۰ (إن في قائمنا أربع علامات من أربعة أنبياء، موسى وعيسى ويوسف ومحمد. أما العلامة من موسى فالخوف والانتظار. وأما العلامة من عيسى فما قالوا في حقه والعلامة من يوسف السجن والتقية. والعلامة من محمد يظهر بآثار مثل القرآن)۲٥۱ ومع أنهم ذكروا هذا الحديث المحكم بهذه الدرجة، التي جاءت كل الأمورات الواردة فيه مطابقة لما وقع، فإنه مع ذلك لم ينتبه أحد ولا يخيل إلي أنهم سيتنبهون فيما بعد أيضا، إلا من شاء ربك إن الله مسمع من يشاء، وما أنا بمسمع من في القبور.


وليكن من المعلوم لجنابك، أن لأطيار الهوية وحمامات الأزلية بيانان. بيان بحسب الظاهر قالوه ويقولونه من غير رمز وستر، ولا نقاب ولا حجاب، حتى يكون سراجا يهدي السالكين إلى معارج القدس، ونورا مبينا يجذب الطالبين إلى بساط الأنس كما هو مذكور في الروايات الصريحة والآيات الواضحة. ولهم بيانات أخرى، قالوها ويقولونها تحت الرمز والستر والحجاب كيما يظهر من المغلين مكنونات قلوبهم وتنكشف حقائقهم. ولهذا يقول الصادق بن محمد: (والله ليمحصن والله ليغربلن)۲٥۲ وهذا هو الميزان الإلهي والمحك الصمداني، الذي به يمتحن عباده. فلم يهتد أحد إلى معاني هذه البيانات إلا ذوو القلوب المطمئنة، والنفوس المرضية والأفئدة المجردة. ومن أمثال هذه البيانات ما كان ولم يكن مقصودهم منها معانيها الظاهرة التي يدركها الناس لذلك يقول: (لكل علم سبعون وجها وليس بين الناس إلا وجه واحد وإذا قام القائم يبث باقي الوجوه بين الناس)۲٥۳ وأيضا قال: (نحن نتكلم بكلمة، ونريد منها إحدى وسبعين وجها، ولنا لكل منها المخرج)۲٥٤.


والخلاصة إنا قد ذكرنا هذه المراتب لكيلا يضطرب العباد من بعض الروايات والبيانات، التي لم تظهر آثارها في عالم الملك، ولكي يحملوها على عدم إدراكهم لها، لا على عدم ظهور معاني الحديث. لأنه غير معلوم عند أولئك العباد، ماذا كان مقصود أئمة الدين منها، كما يستفاد من الحديث. إذا ينبغي للعباد أن لا يجعلوا أنفسهم ممنوعين من الفيوضات بأمثال هذه العبارات، وعليهم أن يسألوا من أهلها، حتى تتضح الأسرار المستورة، وتظهر من دون ستر وحجاب.


ولكنا لم نشاهد أحدا من أهل الأرض يكون طالبا للحق ليرجع في المسائل الغامضة إلى مظاهر الأحدية. بل الكل في أرض النسيان ساكنون ولأهل الغي والطغيان تابعون ولكن الله يفعل بهم كما هم يعملون وينساهم كما نسوا لقاءه في أيامه، وكذلك قضى على الذين كفروا، ويقضي على الذين هم كانوا بآياته يجحدون.


وأختم القول بقوله تعالى: ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ۲٥٥ ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا۲٥٦ وكذلك نزل من قبل لو أنتم تعقلون.


المنزول من الباء والهآء۲٥۷ والسلام على من سمع نغمة الورقاء في سدرة المنتهى فسبحان ربنا الأعلى.


%
تقدم القراءة