نص كتاب الإيقان



واحد، لو أنتم في مظاهر التوحيد بعين الله تشهدون.


ولو نظرنا بعين البصيرة المعنوية، نشاهد في الحقيقة أن كتاب عيسى وأمره أيضا قد ثبتا في عهد خاتم الأنبياء. فمن حيث الاسم قال حضرة محمد (إني أنا عيسى)۱٨ وقد صدق أخباره وآثاره وكتابه أيضا بقوله (إنه من عند الله)۱٩، ففي هذا المقام لا يشاهد بينهما فرق ولا يرى في كتابيهما غيريه، لأن كلا منهما كان قائما بأمر الله، وناطقا بذكر الله، وكتاب كل منهما مشعر بأوامر الله. فمن هذه الوجهة قال عيسى بنفسه إني ذاهب وراجع. مثل ذلك مثل الشمس، فإذا قالت شمس اليوم إنني أنا شمس الأمس فهي صادقة، ولو قالت إنني غيرها نظرا لاختلاف الأيام فهي صادقة أيضا. وكذلك لو نظرنا إلى الأيام، وقلنا إنها جميعها شيء واحد، فإن هذا القول يكون صحيحا وصادقا. وإذا قلنا إنها غيرها من حيث تحديد الاسم والرسم، فإن ذلك أيضا يكون صحيحا وصادقا. إذ بينما نلاحظ أنها شيء واحد، فإنه مع ذلك يلاحظ أن كلا منها له اسم خاص، وخواص أخرى، ورسم معين لا يرى في غيرها. فأدرك بهذا البيان وهذه القاعدة مقامات التفصيل والفرق والاتحاد بين المظاهر القدسية، حتى تعرف وتقف على مرامي الإشارات، في كلمات مبدع الأسماء والصفات في مقامات الجمع والفرق بينها. وتطلع تماما على جواب سؤالك في سر اتخاذ ذاك الجمال الأزلي لنفسه في كل مقام اسما خاصا ورسما مخصوصا. ومن بعد ذلك طلب أصحاب عيسى وتلاميذه من حضرته بيان علامات الرجعة والظهور، ومتى يكون وقتها واستفهموا من طلعته نادرة المثال عن هذا السؤال في عدة مواقع. وفي كل موقع منها ذكر حضرته علامة، كما هو مسطور في الأناجيل الأربعة.


وهذا المظلوم يذكر فقرة منها، ويمنح عباد الله النعم المكنونة في السدرة المخزونة، حبا لوجه الله حتى لا تحرم الهياكل الفانية من الأثمار الباقية، عساهم يفوزون برشح من أنهار حضرة ذي الجلال، المقدسة عن الزوال، والتي جرت في دار السلام (بغداد) ولا نطلب على ذلك جزاء ولا أجرا ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا۲۰ وهذا هو الطعام الذي به تحيا الأرواح والأفئدة المنيرة الحياة الباقية، وهو المائدة التي قيل في حقها ﴿رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء۲۱ وهذه المائدة لا انقطاع لها أبدا عن أهلها ولا نفاذ لها، وفي كل حين تؤتي أكلها من شجرة الفضل، وتنزل من سماء الرحمة والعدل كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِين۲۲.


فيا حسرة على الإنسان من حرمان نفسه عن هذه العطية اللطيفة، ومنعها عن هذه النعمة الباقية، والحياة الدائمة. فاعرف إذن قدر هذه المائدة المعنوية، لعل تحيا الأجساد الهامدة بحياة جديدة من الألطاف البديعة من شمس الحقيقة، وتفوز الأرواح الخامدة بروح غير محدود. فاجهد نفسك يا أخي، واغتنم الفرصة لتشرب من الأكواب الدائمة الباقية ما دامت في الحياة بقية، لأن نسيم الروح الهاب من مصر المحبوب، لا يستمر على الدوام في هبوب. وأنهار التبيان، لا تظل إلى الأبد في جريان، وأبواب الرضوان لا تبقى مفتحة على الدوام. سوف يأتي يوم فيه يطير عندليب الفردوس من روضة القدس الى الأوكار الإلهية. وحينئذ لا تعود تسمع نغمة البلبل ولا ترى جمال الورد. أما ما دامت الحمامة الأزلية في وله وتغريد، والربيع الإلهي في جلوة وزينة، فيجب اغتنام الفرصة حتى لا تحرم أذن قلبك من الاستماع لألحانها. هذه نصيحة هذا العبد لجنابك ولأحباء الله، فمن شاء فليقبل، ومن شاء فليعرض، إن الله كان غنيا عنه وعما يشاهد ويرى.


وهذه نغمات عيسى ابن مريم التي تغنى بها في رضوان الإنجيل بلحن جليل، في وصف علائم الظهور الآتي بعده، المذكور في السفر الأول المنسوب الى متى، عندما سألوه عن علامات الظهور الآتي بعده، فأجاب بقوله ﴿وللوقت من بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس، والقمر لا يعطي ضوءه، والكواكب تتساقط من السماء، وقوات الأرض ترتج، حينئذ يظهر علامات ابن الإنسان في السماء، وينوح كل قبائل الأرض ويرون ابن الإنسان آتيا على سحاب السماء مع قوات ومجد كبير، ويرسل ملائكته مع صوت السافور العظيم۲۳. انتهى أي أنه بعد أن يحيط الضيق والبلاء بكل العباد، تظلم الشمس أي تمنع عن الإفاضة، والقمر لا يعطي نوره، وكواكب السماء تتساقط على الأرض، وتتزلزل أركان الأرض. ففي هذا الوقت تظهر علامة ابن الإنسان في السماء، يعني أن جمال الموعود وساذج الوجود من بعد ظهور هذه العلامات، يظهر من عرصة الغيب إلى عالم الشهود. ثم يقول إنه في ذلك الحين ينوح ويندب جميع القبائل الساكنة على الأرض، ويرون محيا جمال الأحدية آتيا من السماء، راكبا على السحاب، بقوة وعظمة ومجد كبير، ويرسل ملائكته مع صوت السافور العظيم. انتهى


وهذه العبارات مذكورة أيضا في الأسفار الثلاثة الأخرى المنسوبة إلى لوقا ومرقس ويوحنا. ولما كانت هذه العبارات مذكورة في الألواح العربية بالتفصيل، فإننا لا نتعرض لذكرها على صفحات هذه الأوراق، ونكتفي بالإشارة إلى واحدة منها.


إن علماء الإنجيل، لمالم يعرفوا معاني هذه البيانات، ولا المقصود منها، المودع في تلك الكلمات، وتمسكوا بظاهرها، لهذا صاروا ممنوعين من شريعة الفيض المحمدي، وسحابة الفضل الأحمدي. وجهال تلك الطائفة، الذين تمسكوا بعلمائهم أيضا، ظلوا محرومين من زيارة جمال سلطان الجلال، لأن في ظهور الشمس الأحمدية، لم تظهر هذه العلامات المذكورة.


وها قد انقضت القرون، ومضت الدهور والأعصار، ورجع جوهر الروح ذاك إلى مقر بقاء سلطنته، ونفخت النفخة الأخرى في الصور الإلهي من النفس الروحاني، وحشرت الأنفس الميتة من قبور الغفلة والضلالة إلى أرض الهداية ومحل العناية. وهؤلاء الأقوام ما زالوا منتظرين إلى الآن ظهور هذه العلامات، وبروز ذاك الهيكل المعهود إلى حيز الوجود، حتى ينصروه، وينفقوا الأموال في سبيله، ويفدوا الأرواح في حبه، كما ابتعدت الملل الأخرى بهذه الظنون والأفكار عن كوثر معاني رحمة حضرة البارئ التي لا نهاية لها، وشغلوا عنها بتخيلاتهم وأوهامهم.


وفضلا عن هذه العبارة السالفة، فإن هناك بيانا آخر في الإنجيل يقول فيه ﴿السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول۲٤ أي أنه من الممكن أن السماء والأرض تزولان وتنعدمان، أما كلامي فلا يزول أبدا، وسيكون باقيا وثابتا على الدوام بين الناس.


ولذلك يقول أهل الإنجيل، إن حكمه لا ينسخ أبدا، حتى أنه في أي وقت وزمان يظهر فيه طلعة الموعود بكل العلامات، لا بد وأنه يؤيد ويثبت الشريعة المرتفعة في الإنجيل، بحيث لا يبقى دين في كل العالم إلا هذا الدين. وهذه الفقرة من المطالب المحققة المسلم بها عندهم، والتي يعتقدون فيها أنه لو بعث شخص أيضا بجميع العلامات الموعودة، ولكنه يحكم بخلاف الحكم الظاهر في الإنجيل، فإنهم لا يذعنون إليه البتة، ولا يقبلون منه حكما، بل يكفرونه ويستهزؤن به، كما شوهد ذلك في ظهور الشمس المحمدية. أما لو كان جميع الناس قد سألوا بتمام الخضوع ظهورات الأحدية في أي ظهور، عن معاني تلك الكلمات المنزلة في كل الكتب، والتي بسبب عدم بلوغهم إلى معانيها قد حجبوا عن الغاية القصوى وسدرة المنتهى، فلا بد أنهم كانوا يهتدون بأنوار شمس الهداية، ويقفون على أسرار العلم والحكمة.


والآن يذكر هذا العبد رشحا من معاني هذه الكلمات، كي يقف أصحاب البصيرة والفطرة، بواسطة تفسيرها، على جميع تلويحات الكلمات الإلهية، وإشارات بيانات المظاهر القدسية، حتى لا تمنعهم هيمنة الكلمات عن بحر الأسماء والصفات، ولا تحجبهم عن مصباح الأحدية، الذي هو محل تجلي الذات.


فقوله ﴿من بعد ضيق تلك الأيام﴾، إشارة إلى زمان تبتلى فيه الناس بالشدة والضيق، وتزول فيه آثار شمس الحقيقة من بين الناس، وتنعدم أثمار سدرة العلم والحكمة، ويصبح زمام الناس بأيدي الجهال، وتغلق أبواب التوحيد والمعرفة، التي هي المقصد الأصلي من خلق الإنسان، ويتبدل العلم بالظن، وتنقلب الهداية بالشقاوة. كما نشاهد اليوم، أن زمام كل طائفة في يد جاهل، يحركهم كيفما أراد، ولم يبق بينهم من المعبود إلا اسمه، ولا من المقصود إلا لفظه، وغلبت عليهم أرياح النفس والهوى، إلى درجة أطفئت معها سرج العقل والفؤاد من القلوب. مع أن أبواب العلم الإلهي قد فتحت بمفاتيح القدرة الربانية، وجواهر وجود الممكنات قد تنورت بنور العلم، واهتدت بالفيوضات القدسية، على شأن فتح في كل شيء باب من العلم، وشوهد في كل ذرة آثار من الشمس. ومع كل هذه الظهورات العلمية التي أحاطت العالم، فإنهم للآن يحسبون باب العلم مسدودا، وأمطار الرحمة مقطوعة، متمسكين بالظن، بعيدين عن عروة العلم الوثقى التي لا انفصام لها. وكل ما يعرف عنهم أن ليس لهم بالفطرة رغبة في العلم وبابه، وأن لا فكرة عندهم أيضا عن ظهوره لأنهم قد وجدوا في الظن والزعم أبواب المعاش، بينما لا يجدون في ظهور مظاهر العلم إلا إنفاق الروح. لهذا حتما يهربون من هذا ويتمسكون بذاك. ومع أنهم يعتقدون أن حكم الله واحد، فإنه يصدر منهم من كل ناحية حكم، ويظهر من كل محل أمر. فلا يشاهد بينهم نفسان متفقان على حكم واحد. إذ لا يعرفون إلها غير الهوى، ولا يسلكون سبيلا إلا الخطأ. يعدون الرياسة نهاية الوصول إلى المطلوب، ويحسبون الكبر والغرور غاية البلوغ إلى المحبوب. جعلوا التزويرات النفسانية مقدمة على التقديرات الربانية. تركوا التسليم والرضا، واشتغلوا بالتدبير والريا، يحافظون على هذه المراتب بتمام القوة والقدرة، حتى لا يجد النقص سبيلا إلى شوكتهم، ولا يتطرق الخلل إلى عزتهم، وإذا ما تنورت عين بكحل المعارف الإلهية، فإنها تشاهد عدة وحوش مرتمية على جيف أنفس العباد.


فالآن أي ضيق وشدة أشد من هذه المراتب المذكورة، فإنه إذا أراد شخص أن يطلب حقا، أو يلتمس معرفة، فلا يدري إلى من يذهب، وممن يطلب، لأن الآراء مختلفة للغاية، والسبل متعددة. وهذا الضيق وتلك الشدة من شرائط كل ظهور. وما لم يقع هذا ويحصل، فلا تظهر شمس الحقيقة، لأن صبح ظهور الهداية يطلع بعد ليل الضلالة. ولهذا توجد الإشارة في الروايات والأحاديث إلى كل هذه المضامين، بأن الكفر يغشى العالم، وتحيط به الظلمة وأمثالها مما قد سبقت الإشارة إليه، وبالنظر لشهرة هذه الأحاديث، ورغبة هذا العبد في الاختصار فإنه لم يتعرض لذكر عبارات تلك الأحاديث.


أما لو كان المقصود من هذا الضيق، هو ما يدركونه من أن العالم يضيق فعلا، أو تقع تلك الأمورات الأخرى التي يتوهمونها بزعمهم، فإن ذلك لا يحصل أبدا، وحتما يقولون بأن هذا الشرط لم يظهر، كما قالوا ويقولون. والحال أن المقصود من الضيق هو ضيق عن استيعاب


%
تقدم القراءة