نص كتاب الإيقان



مشتهى أنفس العباد وأهوائهم بتقدير من سلطان الإيجاد، وإذا ما اطلعت على جواهر هذه الأسرار، فإنك تطلع على مقصود ذاك المحبوب، وتلاحظ أن أقوال ذاك المليك ذي الاقتدار هي مثل أفعاله تماما، بدرجة أن ما تشاهده في أفعاله تراه أيضا في كلماته، وما تلاحظه في كلماته يتجلى لك في أفعاله. ولذلك كانت هذه الأفعال والأقوال، في الظاهر نقمة للفجار، وفي الباطن رحمة للأبرار. وإذا ما نظرت بعين البصيرة شاهدت أن الكلمات المنزلة من سماء المشية متفقة متحدة مع الأمور الظاهرة من ملكوت القدرة، ولأدركت أنهما كشيء واحد، كما قد سبق ذكره.


والآن أيها الأخ، انظر وتفكر لو كانت تظهر أمثال هذه الأمور في هذا العهد، وتذيع أمثال هذه الحكايات فماذا كانوا يفعلون؟ قسما بمربي الوجود ومنزل الكلمات، إنهم كانوا يحكمون بالكفر في الحال، ويأمرون بالقتل بلا سؤال. فكيف يستمعون إلى القول بأن عيسى قد ظهر من نفخة روح القدس؟ أو أن موسى قد أمر بالأمر المبرم؟ إنك لو تصيح بذلك مائة ألف مرة، فإنه لا يدخل في أذن أحد أن من لا أب له قد بعث بالرسالة، أو أن قاتلا قد سمع النداء من شجرة نار ﴿إِنِّي أَنَا اللهُ٤٩.


ولو نظر بعين الإنصاف، ليشاهد من جميع هذه البيانات أن مظهر هذه الأمور كلها هو اليوم ظاهر كما أن نتائجها أيضا ظاهرة. ومع أنه لم يقع في هذا الظهور أمثال هذه الأمور، فإنهم مع ذلك متمسكون بظنونات الأنفس المردودة. ولكم افتروا عليه من افتراءات، ولكم ارتكبوا في حقه من بلايا لم يظهر لها شبه في الإبداع.


الله أكبر، لما بلغ البيان هذا المقام، مر الشذى الروحاني من الصبح الصمداني، وهب نسيم الصباح من مدينة سبأ البقاء، وبمروره بشر النفس ببشارة جديدة، وفتح للروح فتوحا غير محدود، وبسط أمامها بساطا جديدا. وأتى بهدايا ثمينة لا عداد لها من قبل المحبوب الذي جل عن الوصف، فخلعة الذكر قاصرة عن أن تتناسب مع قده اللطيف، ورداء البيان ناقص لا يفي بقامته المنيرة، يكشف رمز المعاني من غير لفظ، وينطق بأسرار التبيان من دون لسان. يلقن بلابل أغصان الهجر والفراق النوح والأنين، ويعلمهم قواعد العشق وسلوك العاشقين، ويبين لهم سر الخضوع للمحبوب، ويلقن الورود البديعة في رضوان القرب والوصال كيف يكون جذب القلوب وسحر الدلال. ويفيض بأسرار الحقائق على شقائق بستان العشق، ويستودع في صدور العشاق دقائق الرموز، ولطائف الأسرار. ولقد تدفقت حياض عنايته في هذه الساعة على شأن يغتبط له روح القدس غاية الغبطة، إذ وهب للقطرة أمواج البحر، وللذرة طراز الشمس. وبلغت الألطاف إلى مقام: قصد الجعل مكمن المسك، واستقر الخفاش في مقابل الشمس، وبعثت الأموات من قبور الأجساد بنفخة الحياة، وأجلس الجهال على سرير العلم، وأقام الظالمين على أريكة العدل.


إن عالم الوجود حامل بجميع هذه العنايات. ينتظر الساعة التي فيها تظهر آثار هذه العناية الغيبية في العوالم الترابية، وبها يبلغ العطاش الذين سقطوا من شدة الظمأ إلى كوثر زلال المحبوب، ويفوز الضالون في فيافي البعد والعدم بسرادق القرب والحياة في جوار المعشوق. ومن هم الذين تنبت في أرض قلوبهم هذه الحبوب القدسية؟ وتنفتح في رياض نفوسهم شقائق الحقائق الغيبية؟ وحقيقة إن سدرة العشق مشتعلة في سيناء الحب بأشد اشتعال، بحيث لا تخمدها ولا تقضي عليها مياه البيان، وإن عطش هذا الحوت لا ترويه البحور، وإن هذا السمندر الناري لا يستقر إلا في وهج سناء طلعة المحبوب. فأوقد إذا يا أخي سراج الروح في مشكاة قلبك، وأشعله بدهن الحكمة، واحفظه بزجاج العقل، كي لا يطفئه نفس الأنفس المشركة، ويمنعه عن الإنارة. كذلك نورنا أفق سماء البيان من أنوار شموس الحكمة والعرفان، ليطمئن بها قلبك وتكون من الذين طاروا بأجنحة الإيقان في هواء محبة ربهم الرحمن.


أما قوله: ﴿حينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السّماء٥۰ فمعناه أنه من بعد كسوف شمس المعارف الإلهية، وسقوط نجوم الأحكام الثابتة، وخسوف قمر العلم المربي للعباد، وانعدام أعلام الهداية والفلاح، وإظلام صبح الصدق والصلاح، تظهر علامة ابن الإنسان في السماء. والمقصود من السماء هنا هو السماء الظاهرة. إذ عند قرب ظهور فلك سموات العدل، وجريان فلك الهداية على بحر العظمة، يظهر في السماء نجم بحسب الظاهر يكون مبشرا لخلق السموات بظهور ذاك النير الأعظم، كما يظهر في سماء المعاني نجم يكون مبشرا لأهل الأرض بذاك الفجر الأقوم الأكرم. وهاتان العلامتان تظهران في السماء الظاهرة، وفي السماء الباطنة، قبل ظهور كل نبي كما هو المعروف والمشهور.


من جملة ذلك خليل الرحمن، حيث قبيل ظهور حضرته رأى النمرود مناما، فاستطلع فيه رأي الكهنة، فأخبروه عن طلوع نجم في السماء. كما أنه ظهر في الأرض شخص أخذ يبشر الناس بظهور حضرته.


ومن بعده كانت حكاية كليم الله التي أخبر عنها كهنة ذاك الزمان فرعون بأن كوكبا قد طلع في السماء، وهو دليل على انعقاد نطفة على يدها يكون هلاكك أنت وقومك. وكذلك قد ظهر عالم كان يبشر بني إسرائيل في الليالي، يسليهم ويطمئنهم كما هو مسطور في الكتب. ولو توخينا تفصيل تلك الأمور لأصبحت هذه الرسالة كتابا مفصلا. كما أننا لا نحب أن نذكر حكايات الأيام الخالية، ويشهد الله بأن هذا البيان الذي ذكرناه الآن لم يكن إلا من فرط الحب لجنابكم، لعل يصل جمع من فقراء الأرض إلى شاطئ الغنى، أو ترد فئة من الجهال إلى بحر العلم، أو يصل طلاب العلم المتعطشون للمعرفة إلى سلسبيل الحكمة. وإلا فإن هذا العبد يعد الاشتغال بهذه المقالات ذنبا عظيما، ويحسبه عصيانا كبيرا.


وكذلك أيضا، عند قرب ظهور عيسى اطلع نفر من المجوس على ظهور نجم عيسى في السماء. واقتفوا أثر ذلك النجم إلى أن دخلوا المدينة التي كانت مقر سلطنة هيريدوس، وهو الذي كانت سلطنة تلك الممالك في قبضة تصرفه في تلك الأيام. وجاء هؤلاء المجوس قائلين: ﴿أين هو المولود ملك اليهود؟ لأننا قد رأينا نجمه في المشرق ووافينا لنسجد له٥۱. وبعد البحث والفحص علموا بأن ذاك الطفل قد ولد في بيت لحم بأرض يهوذا. فهذه هي العلامة في السماء الظاهرة. وأما العلامة في السماء الباطنة، التي هي سماء العلم والمعاني فكانت ظهور يحيى بن زكريا، الذي كان يبشر الناس بظهور عيسى، كما قال عز من قائل ﴿أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا٥۲ فالمقصود من الكلمة هنا، هو حضرة عيسى الذي كان يحيى مبشرا بظهوره. ومسطور أيضا في الألواح السماوية هذه العبارة: ﴿كان يوحنّا يكرز في برية يهودا قائلا توبوا فقد اقترب ملكوت السّماوات٥۳، والمقصود من يوحنا هو يحيى.


كذلك كان قبل ظهور الجمال المحمدي قد ظهر آثار في السماء الظاهرة. وأما الآثار الباطنة فقد كانوا أربعة رجال واحدا بعد الآخر يبشرون الناس على الأرض بظهور شمس الهوية. وقد تشرف بشرف خدمتهم "رُوزبَه" الذي سمي بسلمان، وكان كلما حضرت الوفاة أحدا منهم يرسل روزبه إلى الشخص الآخر إلى أن أتت نوبة الرابع الذي قال له في حين وفاته: يا روزبه اذهب من بعد تكفيني ودفني إلى الحجاز حيث تشرق هناك الشمس المحمدية ويا بشراك بلقاء حضرته.


ولما بلغت الأيام إلى هذا الأمر البديع المنيع، أخبر أكثر المنجمين عن ظهور نجم في السماء الظاهرة. كما أنه قد كان على الأرض النوران النيران أحمد وكاظم قدس الله تربتهما٥٤.


إذا قد ثبت من هذه المعاني بأن قبل ظهور أي أحد من المرايا الأحدية، تظهر علامات ذلك الظهور في السماء الظاهرة، وفي السماء الباطنة، التي هي محل شمس العلم، وقمر الحكمة وأنجم المعاني والبيان، وتلك عبارة عن ظهور إنسان كامل قبل كل ظهور لتربية العباد وإعدادهم لملاقاة شمس الهوية، وقمر الأحدية.


أما قوله: ﴿وحينئذٍ ينوح كلّ قبائل الأرض ويرون ابن الإنسان آتيًا على سحاب السّماء بقوَّةٍ ومجدٍ كبير٥٥. فالتلميح في هذا البيان الإلهي يقصد به أنه في ذاك الوقت ينوح العباد من فقدان شمس الجمال الإلهي، وقمر العلم، وأنجم الحكمة اللدنية، ويشاهد في تلك الأثناء طلعة الموعود، وجمال المعبود نازلا من السماء، وراكبا على السحاب. يعني أن ذاك الجمال الإلهي يظهر من سماوات المشيئة الربانية في هيكل بشري، ولم يقصد من السماء هنا إلا جهة العلو والسمو، التي هي محل ظهور تلك المشارق القدسية والمطالع القدمية. ولو أن هذه الكينونات القديمة قد ظهرت من بطون الأمهات بحسب الظاهر إلا أنهم في الحقيقة نازلون من سماوات الأمر، وإن يكونوا ساكنين على الأرض، إلا أنهم متكئون على رفرف المعاني. وحيثما يمشون بين العباد فإنهم يكونون طائرين في هواء القرب. يمشون على أرض الروح بغير حركة الرجل، ويطيرون إلى معارج الأحدية بغير جناح. وفي كل نفس يطوون عالم الإبداع من مشرقه إلى مغربه، وفي كل آن يمرون على ملكوت الغيب والشهادة، مستقرون على عرش لا يشغله شأن عن شأن. وجالسون على كرسي: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ٥٦. مبعوثون من علو قدرة سلطان القدم، وسمو مشيئة المليك الأعظم. وهذا معنى قوله إنهم ينزلون من السماء.


واعلم أنه يطلق لفظ السماء في بيانات شموس المعاني على مراتب كثيرة: فمثلا منها سماء الأمر، وسماء المشيئة، وسماء الإرادة، وسماء العرفان، وسماء الإيقان، وسماء التبيان، وسماء الظهور، وسماء البطون، وأمثالها. ففي كل مقام أراد من لفظ السماء معنى مخصوصا لا يدركه أحد غير الواقفين على أسرار الأحدية، والشاربين من كؤوس الأزلية. فمثلا يقول ﴿وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ٥۷ والحال أن الرزق ينبت من الأرض. وكذلك قوله: (الأسماء تنزل من السماء) مع أنها تظهر من لسان العباد. فإن أنت نظفت ولو قليلا مرآة قلبك وطهرتها من غبار الغرض، فإنك تدرك جميع التلميحات في كلمات الكلمة الجامعة الإلهية، وتقف على أسرار العلم في كل ظهور. وما لم تحرق الحجبات العلمية المصطلح عليها بين العباد بنار الانقطاع، فإنك لا تفوز بصبح العلم الحقيقي النوراني.


والعلم علمان: علم إلهي، وعلم شيطاني، أولهما يظهر من إلهامات السلطان الحقيقي، وثانيهما يبدو من تخيلات الأنفس الظلمانية. فمعلم ذاك حضرة الباري، ومعلم هذا الوساوس النفسانية. بيان الأول: ﴿اتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللهُ٥٨. وبيان الثاني: (العلم هو الحجاب الأكبر)٥٩. أثمار ذاك الشجر الصبر والشوق والعرفان والمحبة، وأثمار هذا الشجر الكبر والغرور والنخوة. ومن بيانات أصحاب البيان التي ذكروها في معنى العلم، أنه لا يستشم منه أية رائحة من روائح هذه العلوم الظلمانية التي أحاطت ظلمتها كل البلاد. لا يثمر هذا الشجر إلا البغي والفحشاء، ولا يأتي إلا بالغل والبغضاء، ثمره سم قاتل، وظله نار مهلكة، فنعم ما قال:


(تمسك بأذيال الهوى واخلع الحياء       وَخَلِّ سبيل الناسكين وإن جلُّوا)٦۰


%
تقدم القراءة