نص كتاب الإيقان



يتحقق وما انتابتهم هذه الأمراض إلا من تمسكهم بعلماء عصرهم في تصديق وتكذيب هذه الجواهر المجردة، والهياكل الإلهية. ونظرا لاستغراقهم في الشؤونات النفسية، واشتغالهم بالأمورات الدنية الفانية، لهذا كانوا يرون في هذه الشموس الباقية، أنها مخالفة لعلمهم وإدراكهم، ومعارضة لجهدهم واجتهادهم. وكانوا يفسرون معاني الكلمات الإلهية، ويبينون أحاديث الحروفات الأحدية وأخبارها، تفسيرا لفظيا بحسب مداركهم القاصرة. لهذا حرموا أنفسهم وجميع الناس من أمطار ربيع الفضل، وابتعدوا عن رحمة حضرة الأحدية، مع أنهم مقرون ومذعنون بالحديث المشهور القائل (حديثنا صعب مستصعب)۷٦. وبالحديث الذي يقول في موضع آخر (إن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان)۷۷. ومن المسلم لديهم أنه لم يصدق في حقهم أحد هذه الأحوال الثلاثة. فالحالان الأولان أمرهما واضح، وأما في الحالة الثالثة فإنهم لم يسلموا أبدا من الامتحانات الإلهية وعند ظهور المحك الإلهي لم يظهر منهم شيء إلا الغش.


سبحان الله مع إقرارهم بهذا الحديث فإن العلماء الذين لا يزالون إلى الآن في ظن وشك في المسائل الشرعية كيف يدعون العلم في غوامض مسائل الأصـول الإلهية، وجواهر أسرار الكلمات القدسية، ويقولون بأن الحديث الفلاني الذي هو من علائم ظهور القائم (المهدي) لم يظهر إلى الآن مع أنهم لم يدركوا أبدا رائحة معاني الأحاديث وغفلوا عن أن جميع العلامات قد ظهرت وصراط الأمر قد امتد، والمؤمنون كالبرق عليه يمرون. وهم لظهور العلامة ينتظرون. قل يا ملأ الجهال فانتظروا كما كان الذين من قبلكم لمن المنتظرين.


وإذا ما سئلوا عن شرائط ظهور الأنبياء الذين يأتون من بعد حسب ما هو المسطور في الكتب من قبل والتي من جملتها علامات ظهور الشمس المحمدية وإشراقها كما قد أشرنا إليه من قبل والتي بحسب الظاهر لم تظهر منها علامة واحدة. فمع هذا إذا سئلوا بأي دليل وبرهان تردون النصارى وأمثالهم وتحكمون عليهم بالكفر، فحين عجزهم عن الجواب يتمسكون بقولهم إن هذه الكتب قد حرفت وإنها ليست من عند الله، وإنها لم تكن من عنده أبدا. والحال أن نفس عبارات الآية تشهد بأنها من عند الله. ومضمون نفس هذه الآية أيضا موجود في القرآن لو أنتم تعرفون: الحق أقول لكم أنهم لم يدركوا في تلك المدة ما هو المقصود من التحريف.


أجل قد ورد في الآيات المنزلة، وكلمات المرايا الأحمدية ذكر تحريف العالين وتبديل المستكبرين ولكن ذلك في مواضع مخصوصة: ومن جملتها حكاية ابن صوريا۷٨ حينما سأل أهل خيبر من نقطة الفرقان محمد عليه السلام عن حكم قصاص زنا المحصن والمحصنة فأجابهم حضرته "بأن حكم الله هو الرجم" وهم أنكروا قائلين بأن مثل هذا الحكم غير موجود في التوراة فسألهم حضرته "أي عالم من علمائكم تسلمون به وتصدقون كلامه؟" فاختاروا ابن صوريا فأحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له "أقسمك بالله الذي فلق لكم البحر، وأنزل عليكم المن، وظلل لكم الغمام، ونجاكم من فرعون وملئه، وفضلكم على الناس بأن تذكر لنا ما حكم به موسى في قصاص الزاني المحصن والزانية المحصنة" أي أن حضرته استحلف ابن صوريا بهذه الإيمان المؤكدة عما نزل في التوراة من حكم قصاص الزاني المحصن فأجاب: أن يا محمد إنه الرجم، فقال حضرته لماذا نسخ هذا الحكم من بين اليهود وتعطل حكمه. فأجاب بأنه "لما حرق بختنصر بيت المقدس وأعمل القتل في جميع اليهود لم يبق أحد منهم في الأرض إلا عدد يسير. فعلماء ذاك العصر بالنظر لقلة اليهود وكثرة العمالقة اجتمعوا وتشاوروا فيما بينهم بأنهم لو عملوا وفق حكم التوراة لقتل الذين نجوا من يد بختنصر بحكم التوراة، ولهذه المصلحة رفعوا حكم القتل من بينهم بالمرة" وفي هذه الأثناء نزل جبريل على قلبه المنير وعرض عليه هذه الآية ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ۷٩ هذا موضع من المواضع التي أشير إليها، وفي هذا المقام ليس المقصود من التحريف ما فهمه هؤلاء الهمج الرعاع كما يقول بعضهم إن علماء اليهود والنصارى محوا من الكتاب الآيات التي كانت في وصف الطلعة المحمدية، وأثبتوا فيه ما يخالفها، وهذا القول لا أصل له ولا معنى أبدا: فهل يمكن أن أحدا يكون معتقدا بكتاب ويعتبره بأنه من عند الله ثم يمحوه؟ وفضلا عن ذلك فإن التوراة كانت موجودة في كل البلاد ولم تكن محصورة بمكة والمدينة حتى يستطيعوا أن يغيروا أو يبدلوا فيها. بل إن المقصود من التحريف هو ما يشتغل به اليوم جميع علماء الفرقان ألا وهو تفسير الكتاب وتأويله بحسب ميولهم وأهوائهم: ولما كان اليهود في عصر حضرة الرسول يفسرون آيات التوراة الدالة على ظهور حضرته بحسب أهوائهم وما كانوا يرضون ببيان محمد عليه السلام لذا صدر في حقهم حكم التحريف. كما هو مشهود اليوم عن أمة الفرقان كيف أنها حرفت آيات الكتاب الدالة على علامات الظهور، ويفسرونها بحسب ميولهم وأهوائهم كما هو معروف.


وفي موضع آخر يقول: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ٨۰ وهذه الآية دالة أيضا على تحريف معاني الكلام الإلهي لا على محو الكلمات الظاهرية كما هو مستفاد من الآية، وتدركه أيضا العقول المستقيمة.


وفي موضع آخر يقول: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً٨۱ إلى آخر الآية. وهذه الآية قد نزلت في شأن علماء اليهود وأكابرهم حيث كانوا يكتبون ألواحا عديدة في رد حضرة الرسول لأجل استرضاء خاطر الأغنياء، واستجلاب زخارف الدنيا، وإظهار الغل والكفر. وكانوا يستدلون على ذلك بدلائل عديدة لا يجوز ذكرها، وينسبون إلى أدلتهم هذه أنها مستفادة من أسفار التوراة كما يشاهد اليوم مثل ذلك: فكم من الردود على هذا الأمر البديع كتبها علماء العصر الجاهلون، وزعموا بأن مفترياتهم هذه مطابقة لآيات الكتاب، وموافقة لكلمات أولي الألباب.


وقصارى القول إن المقصود من هذه الأذكار هو أنه إذا كانوا يقولون بأن هذه العلائم المذكورة المشار إليها في الإنجيل قد حرفت، ويردونها ويتمسكون بآيات وأخبار، فاعرف بأنه كذب محض، وافتراء صرف: نعم إن ذكر التحريف بهذا المعنى الذي أشير إليه موجود في مواضع معينة. ولقد ذكرنا بعضا منها حتى يكون معلوما ومثبوتا لكل ذي بصر بأن الإحاطة بالعلوم الظاهرة أيضا موجودة لدى بعض من الأميين الإلهيين كيلا يقع المعارضون في هذا الوهم ويتشبثون بالمعارضة مدعين بأن الآية الفلانية دليل على التحريف. وإن هؤلاء الأصحاب قد ذكروا هذه المراتب والمطالب فقط بسبب عدم اطلاعهم: وعلاوة على ما ذكر فإن أكثر الآيات المشعرة بالتحريف قد نزلت في حق اليهود لو أنتم في جزائر علم الفرقان تحبرون.


ولو أنه قد سمع من بعض حمقى أهل الأرض أنهم يقولون بأن الإنجيل السماوي ليس في يد النصارى بل قد رفع إلى السماء غافلين عن أنهم بهذا القول يثبتون نسبة الظلم والاعتساف بأكمله لحضرة الباري جل وعلا. لأنه إذا كان بعد غياب شمس جمال عيسى عن وسط القوم وارتقائها إلى الفلك الرابع ورفع كتاب الله جل ذكره أيضا من بين خلقه الذي هو أعظم حجة بينهم فبأي شيء يتمسك به أولئك العباد من زمن عيسى إلى زمن إشراق الشمس المحمدية؟ وبأي أمر كانوا به مأمورين؟ وكيف يصيرون مورد انتقام المنتقم الحقيقي، ومحل نزول عذاب وسياط السلطان المعنوي: وبصرف النظر عما ذكر يترتب على ذلك انقطاع فيض الفياض وانسداد باب رحمة سلطان الإيجاد، فنعوذ بالله عما يظن العباد في حقه، فتعالی عما هم يعرفون.


فيا عزيزي إنه في هذا الصبح الأزلي الذي فيه أحاط العالم أنوار ﴿اللهُ نُورُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ٨۲ وارتفع سرادق العصمة والحفظ بقوله: ﴿وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ٨۳ وفيه انبسطت وقامت يد القدرة بقوله: ﴿بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ٨٤ ينبغي لنا أن نشد أزر الهمة لعل نصل بعناية من الله وكرم منه إلى المدينة القدسية ﴿إنَّا للهِ٨٥ ونستقر في مواقع عز (إِلَيْهِ لَرَاجِعُون)٨٦ ويجب عليك إن شاء الله أن تنزه عيني فؤادك عن الشؤون الدنيوية حتى تدرك ما لا نهاية له من مراتب العرفان، وترى الحق أظهر من أن يحتاج في إثبات وجوده إلى دليل أو يتطلب التمسك بحجة في معرفته.


أيها السائل المحب، لو أنك تكون طائرا في هواء الروح الروحاني لترى الحق ظاهرا فوق كل شيء بدرجة لا ترى في الوجود شيئا غيره (كان الله ولم يكن معه من شيء)٨۷ وهذا المقام مقدس عن أن يستدل عليه بدليل أو يحتاج إلى برهان. ولو تكون سائرا في فضاء قدس الحقيقة لتجد كل الأشياء معروفة بعرفانه وهو ما زال ولا يزال معروفا بنفسه. ولو تكون ساكنا في أرض الدليل فاكف نفسك بما قاله بنفسه ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ٨٨ هذه هي الحجة التي قررها بنفسه ولم يكن أعظم منها حجة ولن يكون (دليله آياته ووجوده إثباته)٨٩.


إنني في هذا الوقت أذكر أهل البيان وأطلب من عرفائهم وحكمائهم وعلمائهم وشهدائهم بأن لا ينسوا الوصايا الإلهية التي أنزلها في الكتاب ويكون دائما ناظرين إلى أصل الأمر كيلا يتمسكوا ببعض عبارات الكتاب حين ظهور ذلك الجوهر الذي هو جوهر الجواهر وحقيقة الحقائق ونور الأنوار. وأن لا يرد عليه منهم ما ورد في كور الفرقان لأن ذاك السلطان -سلطان الهوية- قادر على أن يقبض الروح من كل البيان، وخلقه بحرف واحد من بدائع كلماته. أو يهب عليهم الحياة البديعة القدمية بحرف واحد منه ويحشرهم ويبعثهم من قبور النفس والهوى: وأنت فالتفت وارتقب وأيقن في ذاتك بأن الكل سوف ينتهي أمرهم إلى الإيمان به وإدراك أيامه ولقائه ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ٩۰. اسمعوا يا أهل البيان ما وصيناكم بالحق لعل تسكنن في ظل كان في أيام الله ممدودا.


"الباب المذكور في بيان أن شمس الحقيقة ومظهر نفس الله ليكونن سلطانا على من في السموات والأرض وإن لن يطيعه أحد من أهل الأرض، وغنيا عن كل من في الملك وإن لم يكن عنده دينار – كذلك نظهر لك من أسرار الأمر، ونلقي عليك من جواهر الحكمة لتطيرن بجناحي الانقطاع في الهواء الذي كان عن الأبصار مستورا". إن لطائف هذا الباب وجواهره توضح وتثبت لدى أصحاب النفوس الزكية والمرايا القدسية، أن شموس الحقيقة


%
تقدم القراءة