نص كتاب الإيقان



ومرايا الأحدية التي تظهر في كل عصر وزمان من خيام غيب الهوية إلى عالم الشهادة لتربية الممكنات، وإبلاغ الفيض إلى كل الموجودات – هذه الشموس تظهر بسلطنة قاهرة، وسطوة غالبة، لأن هذه الجواهر المخزونة والكنوز الغيبية المكنونة هم محل ظهور يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد.


ومن الواضح لدى أولي العلم والأفئدة المنيرة، أن غيب الهوية وذات الأحدية كان مقدسا عن البروز والظهور، والصعود والنزول والدخول والخروج، ومتعاليا عن وصف كل واصف وإدراك كل مدرك، لم يزل كان غنيا في ذاته، ولا يزال يكون مستورا عن الأبصار والأنظار بكينونته ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ٩۱ لأنه لا يمكن أن يكون بينه وبين الممكنات بأي وجه من الوجوه نسبة وربط وفصل ووصل أو قرب وبعد وجهة وإشارة. لأن جميع من في السموات والأرض قد وجدوا بكلمة أمره، وبعثوا من العدم البحت والفناء الصرف إلى عرصة الشهود والحياة بإرادته التي هي نفس المشيئة.


سبحان الله! إنه ما كان ولن يكون بين الممكنات وبين كلمته أيضا نسبة ولا ربط: والبرهان الواضح على هذا المطلب قوله: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ٩۲ والدليل اللائح عليه (وكان الله ولم يكن معه من شيء)٩۳. إذ أن جميع الأنبياء والأوصياء والعلماء والعرفاء والحكماء قد أقروا بعدم بلوغ معرفة ذلك الجوهر الذي هو جوهر الجواهر. وأذعنوا بالعجز عن العرفان والوصول إلى تلك الحقيقة التي هي حقيقة الحقائق.


ولما أن كانت أبواب عرفان ذات الأزل مسدودة على وجه الممكنات لهذا باقتضاء رحمته الواسعة في قوله سبقت رحمته كل شيء ووسعت رحمتي كل شيء قد أظهر بين الخلق جواهر قدس نورانية، من عوالم الروح الروحاني على هياكل العز الإنساني، كي تحكي عن ذات الأزلية وساذج القدمية – وهذه المرايا القدسية ومطالع الهوية تحكي بتمامها عن شمس الوجود وجوهر المقصود. فمثلا علمهم من علمه، وقدرتهم من قدرته، وسلطنتهم من سلطنته، وجمالهم من جماله، وظهورهم من ظهوره، وهم مخازن العلوم الربانية، ومواقع الحكمة الصمدانية، ومظاهر الفيض اللامتناهي، ومطالع الشمس السرمدية كما قال (لا فرق بينك وبينهم إلا بأنهم عبادك وخلقك)٩٤ وهذا مقام (أنا هو وهو أنا)٩٥ حسب المذكور في الحديث. والأحاديث والأخبار الدالة على هذا المطلب عديدة لم يتعرض هذا العبد إلى ذكرها حبا للاختصار. بل إن كل ما في السموات والأرض مواقع لبروز الصفات والأسماء الإلهية، كما هو ظاهر في كل ذرة آثار تجلي تلك الشمس الحقيقية، بل إنه من غير ظهور هذا التجلي في عالم الملك لا يكون لأي شيء شرف الفخر بخلعة الحياة أو شرف الوجود. فكم في الذرة مستور من شموس المعارف، وكم في القطرة مخزون من بحور الحكمة، ولا سيما الإنسان الذي اختص من بين الموجودات بهذه الخلع، وامتاز بهذا الشرف. لأن جميع الأسماء والصفات الإلهية تظهر من المظاهر الإنسانية بنحو أكمل وأشرف. وكل هذه الأسماء والصفات راجعة إليه حيث قال: (الإنسان سرّي وأنا سرّه)٩٦ والآيات المتواترة المشعرة والدالة على هذا المطلب الرقيق اللطيف مسطورة في جميع الكتب السماوية، ومذكورة في الصحف الإلهية، كما قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِم٩۷ وفي مقام آخر ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ٩٨ وفي مقام آخر يقول أيضا: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالّذينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُم٩٩ وكما يقول سلطان البقاء روح من في سرادق العماء فداه (من عرف نفسه فقد عرف ربه)۱۰۰ قسما بالله يا حبيبي الجليل لو تفكر قليلا في هذه العبارات لتجدن أبواب الحكمة الإلهية ومصاريع العلم غير المتناهي مفتوحة أمام وجهك.


والخلاصة أنه صار معلوما من هذه البيانات أن جميع الأشياء حاكية عن الأسماء والصفات الإلهية، وعلى كل قدر استعداده مدل ومشعر بالمعرفة الإلهية على شأن أحاطت ظهوراته الصفاتية والأسمائية كل الغيب والشهود – ولهذا يقول: (أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك عميت عين لا تراك)۱۰۱ وكما يقول أيضا سلطان البقاء: (ما رأيت شيئا إلا وقد رأيت الله فيه أو قبله أو بعده)۱۰۲. وفي رواية كميل (نور أشرق من صبح الأزل فيلوح على هياكل التوحيد آثاره)۱۰۳ والإنسان الذي هو أشرف المخلوقات وأكملها لأشد دلالة وأعظم حكاية من سائر المعلومات، وأكمل إنسان وأفضله وألطفه هم مظاهر شمس الحقيقة. بل إن ما سواهم موجودون بإرادتهم ومتحركون بإفاضتهم. لولاك لما خلقت الأفلاك. بل الكل في ساحة قدسهم عدم صرف وفناء بحت. بل إن ذكرهم منزه عن ذكر غيرهم، ووصفهم مقدس عن وصف ما سواهم. وهؤلاء الهياكل القدسية هم المرايا الأولية الأزلية التي تحكي عن غيب الغيوب وعن كل أسمائه وصفاته من علم وقدرة وسلطنة وعظمة ورحمة وحكمة وعزة وجود وكرم. فكل تلك الصفات ظاهرة ساطعة من ظهور هذه الجواهر الأحدية. إن هذه الصفات ليست مختصة ببعض دون بعض ولم تكن كذلك فيما مضى بل إن جميع الأنبياء المقربين والأصفياء المقدسين موصوفون بهذه الصفات وموسومون بتلك الأسماء. نهاية الأمر أن بعضهم يظهر في بعض المراتب أشد ظهورا، وأعظم نورا كما قال تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ۱۰٤. إذا صار من المعلوم والمحقق أن محل ظهور جميع هذه الصفات العالية وبروز الأسماء غير المتناهية هم أنبياء الله وأولياؤه. سواء أتظهر بحسب الظاهر بعض هذه الصفات في تلك الهياكل النورانية أو لا تظهر: وليس معنى ذلك أنه إذا لم تظهر من تلك الأرواح المجردة صفة بحسب الظاهر يكون نصيبها نفي تلك الصفة عن أولئك المظاهر للصفات الإلهية ومعادن أسماء الربوبية. لهذا يجري على كل هؤلاء الوجودات المنيرة والطلعات البديعة حكم جميع صفات الله من السلطنة والعظمة وأمثالها حتى وإن لم يظهروا بحسب الظاهر بسلطنة ظاهرة أو غيرها. وهذه الفقرة ثابتة ومحققة لكل ذي بصر فلا تحتاج إلى دليل آخر.


أجل إن هؤلاء العباد لما لم يأخذوا تفاسير الكلمات القدسية من العيون الصافية المنيرة عيون العلوم الإلهية، فهم لهذا سائرون في وادي الظنون والغفلة، وقد أنهكهم الظمأ، وأدركهم الإعياء معرضون عن البحر العذب الفرات، وطائفون حول الملح الأجاج كما قال ورقاء الهوية في وصفهم، ﴿وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ۱۰٥ أي أنه إن يروا سبيل الصلاح والفلاح لا يتخذوه سبيلا ولا يقبلوا عليه. وأما إن يروا طريق الباطل والطغيان والضلالة فهذا يعدونه بزعمهم طريق الوصول إلى الحق. ولم يظهر منهم هذا الإقبال إلى الباطل والإعراض عن الحق يعني أنهم لم يبتلوا بالضلالة والغي إلا جزاء بما كانوا يكذبون بآياتنا، وكانوا عن نزولها وظهورها غافلين. كما شوهد في هذا الظهور البديع المنيع من مئات الآلاف من الآيات الإلهية التي نزلت من سماء القدرة والرحمة – ومع ذلك قد أعرض عنها كل الخلق وتمسكوا بأقوال العباد الذين ما أدركوا حرفا منها – فلهذا السبب اشتبهوا في أمثال هذه المسائل الواضحة وحرموا أنفسهم عن رضوان علم الأحدية ورياض الحكمة الصمدية.


ولنرجع أخيرا إلى المبحث الخاص بالسؤال عن سلطنة القائم من حيث كونها قد وردت في الأحاديث المأثورة عن الأنجم المضيئة. ومع ذلك لم يظهر أثر من تلك السلطنة بل قد تحقق خلافه. إذ أن أصحابه وأولياءه كانوا ولا زالوا محصورين ومبتلين تحت أيدي الناس، وظاهرين في عالم الملك بمنتهى الذل والعجز. نعم إن السلطنة المذكورة في الكتب في حق القائم لهي حق ولا ريب فيها، ولكنها ليست بتلك السلطنة والحكومة التي تدركها كل نفس، فضلا عن أن جميع الأنبياء السابقين الذين بشروا الناس بالظهور الذي يأتي بعدهم، قد ذكر كل أولئك المظاهر السابقين سلطنة الظهور التالي كما هو مسطور في كتب القبل، وإنها لم تتخصص بالقائم وحده بل إن حكم السلطنة وجميع الصفات والأسماء متحقق وثابت في حق كل أولئك المظاهر من السابقين واللاحقين، لأنهم مظاهر الصفات الغيبية، ومطالع الأسرار الإلهية كما سبقت الإشارة إليه.


وفضلا عن ذلك فإن المقصود من السلطنة هو إحاطة حضرته وقدرته على كل الممكنات – سواء أيظهر في عالم الظاهر بالاستيلاء الظاهري أو لا يظهر به – وهذا أمر منوط بإرادة حضرته ومشيئته، وليكن في علم جنابك أن المقصود من السلطنة والغنى، والحياة والموت، والحشر والنشر، المذكور في الصحف الأولى ليس هو ما يدركه الآن هؤلاء القوم ويفهمونه. بل إن المراد من السلطنة هي السلطنة التي تظهر في أيام ظهور كل واحد من شموس الحقيقة من نفس المظهر لنفسه، وهي الإحاطة الباطنية التي بها يحيطون بكل من في السموات والأرض. ثم تظهر بعدئذ في عالم الظاهر بحسب استعداد الكون والزمان والخلق. فمثلا سلطنة حضرة الرسول هي الآن ظاهرة واضحة بين الناس، ولكن في أول أمر حضرته كانت كما سمعت وعرفت. بحيث ورد على ذلك الجوهر جوهر الفطرة وساذج الهوية ما ورد من أهل الكفر والضلال، الذين هم علماء ذلك العصر وأتباعهم. فكم كانوا يلقون من الأقذار والأشواك في محل عبور حضرته: ومن المعلوم أن أولئك الأشخاص كانوا يعتقدون بظنونهم الخبيثة الشيطانية، أن أذيتهم لذلك الهيكل الأزلي، تكون سببا لفوزهم وفلاحهم لأن جميع علماء العصر، مثل عبد الله بن أبي، وأبو عامر الراهب، وكعب بن أشرف، ونضر بن الحارث جميعهم قاموا على تكذيب حضرته ونسبوا إليه الجنون والافتراء، ورموه بمفتريات. نعوذ بالله من أن يجري به المداد، أو يتحرك عليه القلم أو تحمله الألواح. نعم إن هذه المفتريات التي نسبوها إلى حضرته كانت سببا في إيذاء الناس له. ومن المعلوم والواضح أنه إذا كان علماء العصر يكفرون شخصا ويحكمون بردته ويطردونه من بينهم ولا يعتبرونه من أهل الإيمان فكم يرد على هذه النفس من البلايا كما قد ورد على هذا العبد مما كان مشهودا للجميع.


لهذا قال حضرة الرسول: (ما أوذِي نبيٌّ بمثل ما أوذيت)۱۰٦ فهذه المفتريات التي ألصقوها بحضرته، وذلك الإيذاء الذي حل به منهم، كل ذلك مذكور في الفرقان. فارجعوا إليه لعلكم بمواقع الأمر تطلعون. واشتدت عليه الأمور من كل الجهات بدرجة أنه ما كان يعاشره أحد، ولا يعاشرون أصحابه مدة من الزمان. وكل من كان يتشرف بحضرته ويتصل به كانوا يؤذونه غاية الأذى.


إنا نذكر في هذا المقام آية من الكتاب بحيث لو نظرت إليها بعين البصيرة لنحت وندبت على مظلومية حضرته ما دمت حيا – وهذه الآية قد نزلت في وقت كان حضرته في شدة الضيق والكدر من شدة البلايا وإعراض الناس عنه. فنزل عليه جبريل من سدرة منتهى القرب، وتلا عليه هذه الآية ﴿وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء۱۰۷


%
تقدم القراءة