نص كتاب الإيقان



أي يقول له إنه إن كان قد كبر عليك إعراض المعرضين واشتد عليك إدبار المنافقين وإيذاؤهم، فإن استطعت وقدرت فاطلب نفقا تحت الأرض أو سلما في السماء. ويفهم من التلويح في هذا البيان أنه لا مفر لك من ذلك ولا قدرة لك عليه، إلا إذا كنت تختفي تحت الأرض أو ترقى إلى السماء.


والآن انظر وتأمل كم من السلاطين يخضعون لاسم حضرته ويعظمونه، وكم من البلاد وأهلها يستظلون في ظله ويفتخرون بالانتساب إليه، كما أنهم يذكرون على المنابر والمآذن هذا الاسم المبارك بكمال التعظيم والتكريم – وكذا السلاطين الذين لم يدخلوا في ظل حضرته، ولم يخلعوا عن أنفسهم قميص الكفر، هم أيضا مقرون ومعترفون بالعظمة والجلال لهذه الشمس – شمس العناية – فهذه هي السلطنة الظاهرة التي تشاهدها. وهي لا بد من ظهورها وثبوتها لجميع الأنبياء، إما في الحياة أو بعد عروجهم إلى الموطن الحقيقي كما هو مشهود اليوم. ولكن تلك السلطنة المقصودة لم تزل ولا تزال طائفة حولهم، ودائما معهم، وما انفكت عنهم آنا من الزمان. وهي السلطنة الباطنية التي أحاطت كل من في السموات والأرض.


ومن جملة ذلك السلطنة التي ظهرت عن شمس الأحدية محمد عليه الصلاة والسلام. أما سمعت كيف أنه بآية واحدة قد فصل بين النور والظلمة، والسعيد والشقي، والمؤمن والكافر، وظهرت جميع الإشارات والدلالات الخاصة بالقيامة التي سمعت عنها، من حشر ونشر، وحساب وكتاب وغيره. كل ذلك قد ظهر وتحقق في عالم الشهود بتنزيل تلك الآية الواحدة – وهكذا كانت تلك الآية المنزلة رحمة للأبرار، أي للنفوس الذين قالوا حين الاستماع: ربنا سمعنا وأطعنا. ونقمة للفجار أي للذين قالوا بعد الاستماع: سمعنا وعصينا. وكانت سيف الله الفاصل بين المؤمن والكافر، وبين الأب والابن. كما شاهدت كيف أن أولئك الذين أقروا بالإيمان والذين أنكروا، قد قاموا ضد بعضهم بعضا لإبادة الأنفس وإتلاف الأموال. فكم من أب قد أعرض عن أبنائه، وكم من عشاق ابتعدوا عن معشوقيهم، واحترزوا منهم. وكم كان هذا السيف البديع حادا وقاطعا بحيث قطع من بينهم كل نسبة وصلة. كما تلاحظ أيضا أنه من جهة أخرى قد وصل وألف بينهم، إذ قد شوهد أن جمعا من الناس كان شيطان النفس والهوى قد بذر فيما بينهم في سنين عديدة بذور العداوة والبغضاء، وبسبب الإيمان بهذا الأمر البديع المنيع صاروا متحدين ومتفقين بدرجة كأنهم أتوا من صلب واحد. كذلك يؤلف الله بين قلوب الذين هم انقطعوا إليه وآمنوا بآياته وكانوا من كوثر الفضل بأيادي العز من الشاربين. وعلاوة على ذلك، كم من أناس مختلفين في العقائد، ومتباينين في المذاهب، ومتفاوتين في المزاج، قد لبسوا قميص التوحيد الجديد من هذا النسيم – نسيم الرضوان الإلهي وربيع القدس المعنوي. وشربوا من كأس التفريد.


هذا هو معنى الحديث المشهور القائل بأن (الذئب والغنم يأكلان ويشربان من محل واحد)۱۰٨. والآن انظر إلى عدم عرفان هؤلاء الجهلاء، كيف أنهم لا زالوا ينتظرون مثل الأمم السابقة متى تجتمع هذه الحيوانات على خوان واحد – هذه درجة عرفان أولئك الناس، كأنهم ما شربوا من كأس الإنصاف أبدا وما مشوا في سبيل العدل خطوة. وبصرف النظر عن ذلك، فأي حسن يحدثه وقوع هذا الأمر في العالم. فنعم ما نزل في شأنهم ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا۱۰٩.


وانظر أيضا كيف أنه بتنزيل تلك الآية الواحدة من سماء المشيئة قد فصل في حساب الخلائق، بحيث أن كل من أقبل وأقر زادت حسناته على سيئاته وعفي عنه وغفرت له جميع الخطايا. كذلك يصدق في شأنه بأنه سريع الحساب. وكذلك يبدل الله السيئات بالحسنات، لو أنتم في آفاق العلم وأنفس الحكمة تتفرسون – وكذلك كل من أخذ نصيبه من كأس الحب فقد فاز بالحياة الإيمانية الباقية الأبدية من بحر الفيوضات السرمدية، وغمام الرحمة الأبدية. وكل من لم يفز بهذه الكأس ابتلي بالموت الدائمي. والمقصود من الموت والحياة المذكورين في الكتب هو الموت الإيماني والحياة الإيمانية. وبسبب عدم إدراك هذا المعنى اعترضت عامة الناس في كل ظهور، ولم يهتدوا إلى شمس الهداية، ولم يقتدوا بالجمال الأزلي.


ولما أضاء السراج المحمدي في المشكاة الأحمدية، أطلق على الناس حكم البعث والحشر والحياة والموت. وبذا ارتفعت أعلام المخالفة، وانفتحت أبواب الاستهزاء، كما أخبر الروح الأمين عن لسان المشركين بقوله: ﴿وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الّذينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ۱۱۰ وفي مقام آخر ﴿وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ۱۱۱. ولهذا قال في مقام آخر قهرا لهم: ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ۱۱۲ ومضمونه هل كنا عاجزين عن الخلق الأول، بل إن هؤلاء المشركين في شك وشبهة من خلق جديد.


إن علماء التفسير وأهل الظاهر لما لم يدركوا معاني الكلمات الإلهية، واحتجبوا عن المقصود الأصلي، لهذا استدلوا بقاعدة النحو على أن كلمة "إذا" التي تدخل على الماضي تفيد معنى المستقبل. وبعدها تحيروا في تفسير الكلمات التي لم تنزل فيها كلمة "إذا" مثل قوله: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ۱۱۳ الذي معناه الظاهر بأنه نفخ في الصور فعلا، وإنه ليوم الوعيد، الذي كان بحسب نظرهم بعيدا جدا. وجاءت كل نفس لأجل الحساب ومعها سائق وشهيد. وفي مثل هذه المواقع إما قدروا كلمة "إذا" أو استدلوا عليها، بأنه لما كانت القيامة محققة الوقوع، لهذا أتى به بلفظ الفعل الماضي كأنه شيء مضى: فانظروا إلى قلة إدراكهم وعدم تمييزهم. إذ إنهم لم يدركوا النفخة المحمدية التي عبر عنها بهذه الصراحة، ويحرمون أنفسهم عن فيض هذه النقرة الإلهية، وينتظرون صور إسرافيل، الذي هو واحد من عباده. مع أن وجود إسرافيل وأمثاله قد تحقق ببيان حضرته: قل أتستبدلون الذي هو خير لكم فبئس ما استبدلتم بغير حق وكنتم قوم سوء أخسرين. بل المقصود من الصور هو الصور المحمدي الذي نفخ على كل الممكنات. والمقصود من القيامة قيام حضرته على الأمر الإلهي. وإنه قد خلع على الغافلين الذين كانوا أمواتا في قبور أجسادهم خلع الإيمان الجديدة، وأحياهم بحياة جديدة بديعة – لهذا لما أراد جمال الأحدية إظهار رمز من أسرار البعث والحشر والجنة والنار والقيامة، أوحى إليه جبريل بهذه الآية ﴿فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا۱۱٤. ومعناه إن أولئك الضالين التائهين في وادي الضلالة، سوف يهزون رؤوسهم على سبيل الاستهزاء، ويقولون: في أي زمان ستظهر هذه الأمور؟ فقل لهم في الجواب عسى أن يكون ذلك قريبا: إن التلويح في هذه الآية الواحدة ليكفي الناس لو كانوا بالنظر الدقيق ينظرون.


سبحان الله، ما أبعد هؤلاء القوم عن سبيل الحق، إذ إن القيامة كانت قائمة بقيام حضرته، وعلاماته وأنواره كانت محيطة بكل الأرض، مع ذلك كانوا يسخرون. وكانوا عاكفين على التماثيل التي أقامها علماء العصر بأفكارهم الباطلة العاطلة. وكانوا غافلين عن شمس العناية الربانية، وأمطار الرحمة السبحانية. بلى إن الجعل لمحروم عن روائح القدس الأزلية، والخفاش ليهرب من مواجهة أنوار الشمس المضيئة.


إن هذا المطلب وتلك الأحوال كانت في كل الأعصار في أيام ظهور مظاهر الحق. كما قال عيسى عليه السلام ﴿لا بدّ لكم بأن تولدوا مرّة أخرىمن لم يولد من الماء والرّوح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله. المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الرّوح هو روح۱۱٦ أي أن النفس التي لم تحي من ماء المعرفة الإلهية وروح القدس العيسوي، فإنها غير لائقة للدخول والورود في الملكوت الرباني. لأن الذي ظهر من الجسد وتولد منه فهو جسد، والمولود من الروح التي هي نفس عيسى فهو روح. وخلاصة المعنى هو أن العباد الذين ولدوا من روح المظاهر القدسية، وحيوا من نفحتهم في أي ظهور يصدق عليهم حكم الحياة والبعث والورود في جنة المحبة الإلهية. وما عداهم من العباد يصدق عليهم حكم آخر، هو الموت والغفلة، والورود في نار الكفر والغضب الإلهي. ولقد أطلق في الكتب والألواح والصحائف حكم الموت والنار، وعدم البصر والقلب والسمع على الذين لم يشربوا من كؤوس المعارف اللطيفة ولم تفز قلوبهم بفيض روح القدس إبان ظهوره في كل عصر كما أشير إليه من قبل ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا۱۱۷.


وفي مقام آخر في الإنجيل مسطور بأنه في ذات يوم توفي والد أحد أصحاب عيسى. فعرض الأمر على حضرته وطلب منه إجازة ليذهب ليكفنه ويدفنه ثم يرجع. فأجابه جوهر الانقطاع ﴿دع الموتى يدفنون موتاهم۱۱٨.


وكذلك قد حضر لدى حضرة الإمام علي - كرم الله وجهه - نفران من أهل الكوفة، أحدهما له بيت يريد بيعه، والآخر كان مشتريا له، وكان قد قر قرارهما على أن تقع المبايعة باطلاع حضرته، وتحرر وثيقة المبايعة أمامه. فخاطب مظهر الأمر الإلهي الكاتب وقال له أن اكتب (قد اشترى ميت عن ميت بيتا محدودا بحدود أربعة، حد إلى القبر وحد إلى اللحد وحد إلى الصراط وحد إما إلى الجنة وإما إلى النار)۱۱٩. فالآن لو كان هذان النفران قد حييت روحهما من نفخة صور علي ولو كانا قد بعثا من قبر الغفلة بمحبة حضرته لما أطلق عليهما البتة حكم الموت.


لم يكن مقصود الأنبياء والأولياء في أي عهد وعصر من ذكر الحياة والبعث والحشر إلا الحياة والبعث والحشر الحقيقي. فإذا ما تأمل الإنسان قليلا في هذا البيان الذي قاله علي لانكشفت له جميع الأمور، وعرف ما هو المقصود من اللحد والقبر، والصراط والجنة والنار. ولكن ما الحيلة وجميع الناس محجوبون في لحد النفس، ومدفونون في قبر الهوى. والخلاصة أنك لو رزقت قليلا من زلال المعرفة الإلهية لعرفت بأن الحياة الحقيقية هي حياة القلب لا حياة الجسد، لأن في حياة الجسد يشترك جميع الناس والحيوانات. أما هذه الحياة فهي مختصة بأصحاب الأفئدة المنيرة، الذين شربوا من بحر الإيمان، ورزقوا من ثمرة الإيقان. وهذه الحياة لا يعقبها موت، وهذا البقاء لا يلحقه فناء، كما قال (المؤمن حي في الدارين)۱۲۰. أما إذا كان المقصود بتلك الحياة، هي الحياة الجسدية الظاهرة المشهودة، فإن هذه يعقبها الموت.


%
تقدم القراءة