نص كتاب الإيقان



فيجب إذا أن تنزه الصدر عن كل ما سمعته، وتقدس القلب عن جميع التعلقات كي تكون محل إدراك الإلهامات الغيبية، ومستودع أسرار العلوم الربانية. ولهذا يقول (السالك في النهج البيضاء والركن الحمراء لن يصل إلى مقام وطنه إلا بالكف الصفر عما في أيدي الناس)٦۱ هذا شرط السالك. فكر فيه مليا وتعقله، حتى تقف على مقصود الكتاب من غير ستر ولا حجاب.


وبالاختصار قد بعدنا عن المقصد، ولو أن كل ما ذكر هو في المطلب، قسما بالله كلما أردت الاختصار والاكتفاء بالأقل من القليل، أرى زمام القلم يفلت من اليد، ومع ذلك فكم من لآلئ عصماء لا عداد لها، لم تزل مودعة في صدف القلب، وكم من حوريات المعاني لم تزل مستورة في غرفات الحكمة، لم يمسسهن أحد، كما قال تعالى: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ٦۲ ومع كل هذه البيانات، كأني لم أذكر حرفا عن المقصود، ولم آت برمز عن المطلوب. فمتى يوجد محرم أمين للسر مستعد للإحرام في حرم المحبوب، والوصول إلى كعبة المقصود، كي يرى ويسمع أسرار البيان من دون سمع ولا لسان. إذا أصبح المقصود من السماء في الآية المنزلة معلوما ومفهوما من هذه البيانات المحكمة الواضحة اللائحة.


أما قوله: إنه يأتي على السحاب والغمام، فالمراد من الغمام هنا - هو تلك الأمور المخالفة لأهواء الناس وميولهم، كما ورد في الآية ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ٦۳ وذلك من قبيل تغيير الأحكام وتبديل الشرائع وارتفاع القواعد والرسوم العادية وتقدم المؤمنين من العوام على المعرضين من العلماء. وكذلك يقصد به ظهور ذلك الجمال الأزلي خاضعا للحدودات البشرية، مثل الأكل والشرب، والفقر والغنى، والعزة والذلة، والنوم واليقظة، وأمثال ذلك، مما يثير الشبهة عند الناس ويحجبهم. فكل هذه الحجبات قد عبر عنها بالغمام.


وهذا هو الغمام الذي به تتشقق سماوات العلم والعرفان لكل من على الأرض. كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ٦٤ وكما أن الغمام يمنع أبصار الناس عن مشاهدة الشمس الظاهرة، كذلك هذه الشؤونات المذكورة تمنع العباد عن إدراك شمس الحقيقة. يشهد بذلك ما جاء في الكتاب عن لسان الكفار. ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا٦٥ حيث قد لوحظ على الأنبياء فقر وابتلاء ظاهري، كما لوحظ أيضا فيهم مستلزمات الجسد العنصرية من قبيل الجوع والأمراض والحوادث الإمكانية. ولما كانت تظهر هذه الشؤون من تلك الهياكل القدسية كان الناس يتيهون في فيافي الشك والريب، ويهيمون في بوادي الوهم والحيرة مستغربين: كيف أن نفسا تأتي من جانب الله وتدعي إظهار الغلبة على كل من على الأرض، وتنسب إلى نفسها أنها علة خلق الموجودات كما قال (لولاك لما خلقت الأفلاك)٦٦، ومع ذلك تكون مبتلية بهذه الأمور الجزئية بتلك الكيفية، كما قد سمعت من قبيل ابتلاء كل نبي وأصحابه بالفقر والأمراض والذلة، حيث كانوا يرسلون رؤوس أصحابهم إلى المدائن كهدايا. ويمنعونهم عن إظهار ما أمروا به. وكل واحد منهم كان مبتلي تحت أيدي أعداء الدين، بدرجة أنهم صنعوا بهم كل ما أرادوا أن يصنعوه.


ومن المعلوم أن التغييرات والتبديلات التي تقع في كل ظهور هي عبارة عن ذاك الغمام المظلم الذي يحول بين بصر عرفان العباد ومعرفتهم تلك الشمس الإلهية التي أشرقت من مشرق الهوية، وذلك لأن العباد باقون على تقليد آبائهم وأجدادهم هذه السنين الطويلة، ومتربون على الآداب والطرائق التي كانت مقررة في الشريعة القديمة. ثم دفعة واحدة يسمعون أو يرون شخصا مماثلا لهم في جميع الحدودات البشرية، يقوم من بينهم وينسخ تلك الحدودات الشرعية التي تربوا عليها قرونا متواترة، وكانوا يعدون المخالف والمنكر لها، كافرا وفاسقا وفاجرا. فلا بد أن هذه الأمور تكون حجابا وغماما للذين لم تذق قلوبهم سلسبيل الانقطاع، ولم تشرب من كوثر المعرفة. ويحتجبون عن عرفان تلك الشمس بمجرد استماعهم لهذه الأمور. وبدون سؤال ولا جواب يحكمون بكفره، ويفتون بقتله. كما قد عرفت وسمعت مما وقع في القرون الأولى، ومما هو واقع في هذا الزمان أيضا مما شاهدته، إذا ينبغي لنا أن نبذل الجهد حتى أننا بفضل التأييدات الغيبية لا نحرم بهذه الحجبات الظلمانية، وغمام الامتحانات الربانية، عن مشاهدة ذاك الجمال النوراني، ونعرفه هو بنفسه لا بشيء آخر. وإذا ما أردنا حجة، فنكتفي بحجة واحدة وبرهان واحد حتى نفوز بمنبع الفيض اللامتناهي، الذي في ساحته تنعدم جميع الفيوضات الأخرى. لا أننا في كل يوم نعترض باعتراض من خيالنا، أو نتمسك برأي على حسب أهواء أنفسنا.


سبحان الله، رغما من كل هذه الإنذارات التي أخبروا عنها من قبل، بتلويحات عجيبة، وإشارات غريبة، كي يطلع عليها كل الناس، ولا يحرمون أنفسهم في هذا اليوم عن بحر بحور الفيوضات، مع ذلك فقد وقع في الأمر ما وقع مما هو مشهور، ونزلت بمضامينه الآيات الفرقانية كما قال تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ٦۷. وبعض علماء أهل الظاهر جعلوا هذه الآية من علامة القيامة الموهومة التي يتصورونها. والحال إن مضمونها موجود في أكثر الكتب السماوية، ومذكور في كل الأماكن التي فيها ذكر علامات الظهور الذي يأتي بعده كما ذكرنا من قبل.


وكذلك قوله: ﴿يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ٦٨ يريد بها أن رب العزة قد جعل الأمورات المضادة للأنفس الخبيثة، والمخالفة لأهواء الناس محكا وميزانا لامتحان عباده، وتمييزا للسعيد من الشقي، والمعرض من المقبل، كما قد ذكر. وقد عبر بالدخان في هذه الآية المذكورة عن الاختلافات في الرسوم العادية، وعن نسخها وهدمها وانعدام أعلامها المحدودة. فأي دخان أعظم من هذا الدخان الذي غشى كل الناس، وأصبح عذابا لهم، لا يستطيعون منه خلاصا مهما حاولوا بل إنهم في كل حين يعذبون بعذاب جديد من نار أنفسهم.إذ أنهم كلما يسمعون بأن هذا الأمر البديع الإلهي، والحكم المنيع الصمداني قد أصبح ظاهرا في أطراف الأرض. وهو كل يوم في علو وازدياد تشتعل في قلوبهم نار جديدة، وكلما يلاحظون من قدرة أصحابه وانقطاعهم وثبوتهم الذي يزداد كل يوم بفضل العناية الإلهية استحكاما ورسوخا يظهر على نفوس المعرضين اضطراب جديد. والحمد لله، قد بلغت السطوة الإلهية في هذه الأيام شأنا لا يجرؤون معه على الكلام. وإذا ما لقوا أحدا من أصحاب الحق من الذين لو كان لهم مائة ألف روح لأنفقوها في سبيل المحبوب بكل روح وريحان، يظهرون أمامه الإيمان من الخوف. وإذا ما خلوا لأنفسهم يشتغلون بالسب واللعن كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ٦٩ وعما قليل سوف ترى أعلام القدرة الإلهية مرتفعة في كل البلاد، وتشاهد آثار غلبته وسلطنته ظاهرة في جميع الديار.


وخلاصة الكلام أنه لما لم يدرك أكثر العلماء هذه الآيات ولم يقفوا على المقصود من القيامة فسروها بقيامة موهومة من حيث لا يشعرون. والله الأحد شهيد بأنه لو كان لديهم شيء من البصيرة، لأدركوا من تلويح هاتين الآيتين جميع المطالب التي هي عين المقصود. ولوصلوا بعناية الرحمن إلى صبح الإيقان المنير، كذلك تغن عليك حمامة البقاء على أفنان سدرة البهاء لعل تكونن في مناهج العلم والحكمة بإذن الله سالكا.


وقوله ﴿يرسل ملائكته۷۰ إلى آخر القول، فالمقصود بهؤلاء الملائكة هم أولئك النفوس الذين هم بقوة روحانية حرقوا الصفات البشرية بنار محبة الله، واتصفوا بصفات أهل العليين والكروبيين كما يقول حضرة الصادق۷۱ في وصف الكروبيين (إنهم قوم من شيعتنا خلف العرش)۷۲ ولو أن ذكر عبارة خلف العرش يقصد بها معان شتى، حسب الظاهر وحسب الباطن أيضا، إلا أنها في إحدى المقامات في المرتبة الأولى تدل على عدم وجود الشيعة كما يقول في مقام آخر (المؤمن كالكبريت الأحمر)۷۳ وبعدها يخاطب المستمع قائلا له (هل رأيت الكبريت الأحمر)۷٤ فالتفت إلى هذا التلويح الذي هو أبلغ من التصريح وأدل على عدم وجود المؤمن ، هذا قول حضرته، والآن أنظر كم من هؤلاء الخلق المجردين عن الإنصاف، والذين لم يستنشقوا رائحة الإيمان كيف أنهم ينسبون الكفر للذين بقولهم يتحقق الإيمان.


وبالاختصار لما أن صارت هذه الوجودات القدسية منزهة ومقدسة عن العوارض البشرية، ومتخلقة بأخلاق الروحانيين، ومتصفة بأوصاف المقدسين، لهذا أطلق اسم الملائكة على هذه النفوس المقدسة. هذا هو معنى تلك الكلمات التي قد اتضحت كل فقرة منها بالآيات الواضحة والدلائل المتقنة، والبراهين اللائحة.


ولما لم تصل أمم عيسى إلى هذه المعاني، ولم تظهر هذه العلامات بحسب الظاهر كما أدركوها هم وعلمائهم، لهذا لم يقبلوا إلى المظاهر القدسية من ذلك اليوم إلى الآن، وصاروا محرومين من جميع الفيوضات القدسية، ومحجوبين عن بدائع الكلمات الصمدانية. هذا شأن هؤلاء العباد في يوم الميعاد حيث عجزوا عن أن يدركوا بأنه لو كانت أشراط الظهور في أي عصر تظهر في عالم الظاهر مطابقة لما ورد في الأخبار، فمن الذي كان يستطيع الإنكار والإعراض، وكيف كان يفصل بين السعيد والشقي، والمجرم والتقي، احكم بالإنصاف. مثلا لو تظهر بحسب الظاهر هذه العبارات المسطورة في الإنجيل، وتنزل الملائكة مع عيسى ابن مريم من السماء الظاهرة على السحاب، فمن ذا الذي يقدر على التكذيب أو يستطيع الإنكار ويستكبر عن الإيمان؟ بل إن الاضطراب يأخذ أهل الأرض قاطبة على الفور بدرجة لا يقدرون على التكلم والتفوه بحرف واحد، فكيف يصل الحال إلى الرد أو القبول؟ ونظرا لعدم إدراكهم هذه المعاني فقد عارض جمع من علماء النصارى محمدا قائلين له إذا كنت أنت النبي الموعود، فلماذا ليس معك هؤلاء الملائكة المذكورون في كتبنا والذين يجب أن يأتوا مع جمال الموعود ويكونوا عونا له في أمره ونذيرا للعباد؟ كما أخبر رب العزة عن لسانهم بقوله: ﴿لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا۷٥ إن أمثال هذه الاعتراضات كانت موجودة بين الناس في كل الأزمان والأعصار. وكانوا في كل الأيام مشتغلين بزخارف القول، بحجة أن العلامة الفلانية لم تظهر، والبرهان الفلاني لم


%
تقدم القراءة