نص كتاب الإيقان



المعارف الإلهية، وعجز عن إدراك الكلمات الربانية حيث إن العباد بعد غروب الشمس، واختفاء مراياها عن الأبصار، يقعون في ضيق وشدة، ولا يعرفون إلى من يتوجهون كما قد ذكر. كذلك نعلمك من تأويل الأحاديث، ونلقي عليك من أسرار الحكمة، لتطلع بما هو المقصود، وتكون من الذين هم شربوا كأس العلم والعرفان.


وقوله، ﴿تظلم الشمس والقمر لا يعطي ضوءه، والكواكب تتساقط من السماء۲٥. فالمقصود من الشمس والقمر المذكورين في كلمات الأنبياء، ليس منحصرا في هذين الكوكبين المشهورين، بل إنهم قد أرادوا من الشمس والقمر معاني عديدة. وفي كل مقام منها يريدون معنى خاصا بمناسبة ذلك المقام. فمثلا: أحد معاني الشمس يطلق على شموس الحقيقة، الذين يطلعون من مشرق القدم، ويكونون واسطة إبلاغ الفيض إلى جميع الممكنات. وهؤلاء الشموس هم المظاهر الإلهية الكلية، في عوالم صفاته وأسماءه. فكما أن الشمس الظاهرة بتقدير من المعبود الحقيقي تربي الأشياء الظاهرة، من الأثمار والأشجار والألوان والمعادن وما دون ذلك، مما هو مشهود في عالم الملك، بتأثير حرارتها، كذلك تظهر أشجار التوحيد وأثمار التفريد، وأوراق التجريد وأوراد العلم والإيقان، ورياحين الحكمة والبيان، من أثر تربية الشموس المعنوية وعنايتها. ولهذا يتجدد العالم في حين إشراق هذه الشموس، وتجري أنهار الحيوان، وتتموج بحور الإحسان ويرتفع سحاب الفضل، وتهب نسمات الجود على هيكل كل موجود، وتنبعث حرارة المحبة الإلهية في أركان العالم من هذه الشموس الإلهية ونيرانها المعنوية، وتوهب روح الحياة الباقية إلى أجساد الأموات البالية، بعناية هذه الأرواح المجردة. وفي الحقيقة أن هذه الشمس الظاهرية إن هي إلا آية من تجلي تلك الشمس المعنوية، التي لا يشاهد لها نظير ولا شبيه ولا ند، والكل قائم بوجودها، وظاهر من فيضها، وراجع إليها. منها ظهرت الأشياء، وإلى خزائن أمرها رجعت، ومنها بدئت الممكنات، وإلى كنائز حكمها عادت.


أما كون هذه الشموس قد تخصصت وتحددت ببعض من الأسماء والصفات في مقام الذكر والبيان كما سمعتم وتسمعون الآن، فلم يكن هذا إلا لأجل إدراك العقول الناقصة الضعيفة، وإلا فهي لم تزل كانت ولا تزال تكون مقدسة عن كل اسم، ومنزهة عن كل وصف. ليس لجواهر الأسماء في ساحة قدسها طريق، ولا للطائف الصفات في ملكوت عزها سبيل. فسبحان الله من أن يعرف أصفياؤه بغير ذواتهم، أو يوصف أولياؤه بغير أنفسهم، فتعالى عما يذكر العباد في وصفهم، وتعالى عما هم يعرفون.


وأما إطلاق لفظة الشموس على تلك الأنوار المجردة، في كلمات أهل العصمة فهو كثير. فمن جملة ذلك ما ورد في دعاء النُدبة۲٦، حيث يقول (أين الشموس الطالعة. أين الأقمار المنيرة، أين الأنجم الزاهرة)۲۷. إذا صار من المعلوم أن المقصود من الشمس والقمر والنجوم في الرتبة الأولى هم الأنبياء والأولياء وأصحابهم، الذين من أنوار معارفهم قد أضاءت وتنورت عوالم الغيب والشهود، وفي الرتبة الثانية يكون المقصود من الشمس والقمر والنجوم هم علماء الظهور السابق، الذين يكونون موجودين في زمان الظهور اللاحق، وبيدهم زمام دين الناس. فإذا ما استناروا بضياء شمس أخرى أثناء ظهورها، يكونون من المقبولين والمضيئين والمتلألئين، وإلا يجري في حقهم حكم الظلمة، ولو يكونون بحسب الظاهر من الهادين. لأن جميع هذه المراتب من الكفر والإيمان، والهداية والضلالة، والسعادة والشقاوة، والنور والظلمة، منوطة بتصديق تلك الشموس المعنوية الإلهية. فكل نفس من العلماء جرى عليها في يوم التغابن والإحسان حكم الإيمان من مبدأ العرفان، يصدق في حقها العلم والرضا، والنور والإيمان. وإلا يجري في حقها حكم الجهل والنفي والكفر والظلم.


ومن المشهود لدى كل ذي بصر، أنه كما ينمحي نور النجم عند إشراق الشمس الظاهرة، كذلك تنمحي وتظلم شمس العلم والحكمة والعرفان الظاهري عند طلوع شمس الحقيقة وإشراق نير المعاني.


وإطلاق لفظ الشمس على أولئك العلماء، هو لمناسبة علوهم وشهرتهم ومكانتهم، لأنهم علماء العصر المعترف بهم، المشهورون في البلاد، والمسلم بهم بين العباد. فإذا ما حكوا عن الشمس الإلهية، فإنهم يحسبون من الشموس العالية، وإلا فيعتبرون من شموس سجين، كما قال تعالى: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ۲٨. ولا بد أنك قد أطلعت على معنى الشمس والقمر المذكورين أيضا في الآية فلا احتياج لذكره. وكذلك كل من كان من عنصر هذه الشمس وذاك القمر، أعني أنه مقبل إلى الباطل، ومعرض عن الحق، فلا بد وأنه قد ظهر من الحسبان، وإلى الحسبان راجع. فعلينا إذا أيها السائل أن نتمسك بالعروة الوثقى، كي نخرج من ليل الضلالة بنور الهداية، ونفر من ظل النفي، لندخل في ظل الإثبات، ونحرر أنفسنا من نار الحسبان، لنتنور بنور جمال حضرة المنان والسلام. كذلك نعطيكم من أثمار شجرة العلم لتكونن في رضوان حكمة الله لمن المحبرين.


وفي مقام آخر يكون المقصود من إطلاقات الشمس والقمر والنجوم، هو العلوم والأحكام المرتفعة في كل شريعة، مثل أحكام الصوم والصلاة، التي صارت في شريعة الفرقان، بعد غيبة الجمال المحمدي أحكم وأعظم من كل الأحكام، كما تدل الأحاديث والأخبار على ذلك. وبالنظر لشهرتها فلا داعي لذكرها، بل أن حكم الصلاة في كل عصر كان محكما ونافذا كما هو المأثور عن الأنوار المشرقة من الشمس المحمدية، من أن حكم الصلاة قد نزل على جميع الأنبياء في كل عصر. غاية ما هنالك أنه قد أختص في كل وقت باقتضاء الزمان برسوم وآداب جديدة. وحيث أنه في كل ظهور لاحق، كانت تنسخ العادات والآداب والعلوم، التي كانت مرتفعة ومحكمة ومشرقة وواضحة وثابتة في الظهور السابق، لهذا قد ذكرت تلويحا باسم الشمس والقمر ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً۲٩.


وكذلك جاء في الحديث إطلاق الشمس والقمر على الصوم والصلاة كما يقول (الصوم ضياء والصلاة نور)۳۰ ولكن بينما كنت جالسا ذات يوم في محل، ورد علينا شخص من العلماء المعروفين، وذكر هذا الحديث بمناسبة، وقال لما كان الصوم يحدث حرارة في المزاج، لهذا عبر عنه بالضياء الذي هو الشمس، ولما كانت الصلاة في الليل تتطلب البرودة، لهذا عبر عنها بالنور الذي هو القمر. فلاحظت أن ذلك الفقير لم يوفق إلى قطرة من بحر المعاني، ولم يفز بجذوة من نار سدرة الحكمة الربانية. وبعد برهة قلت له بنهاية الأدب، إن ما ذكرته جنابك في معنى الحديث هو المتداول على الألسن، والمذكور في أفواه الناس. ولكن ربما يستفاد من الحديث أيضا معنى آخر، فطلب منا بيان ذلك. فذكرنا له بأن خاتم الأنبياء، وسيد الأصفياء، قد شبه الدين المرتفع في الفرقان بالسماء، بسبب علوه، ورفعته، وعظمته، وإحاطته على جميع الأديان. ولما كان في السماء الظاهرة يوجد ركنان أعظمان أقومان، هما النيران المسميان بالشمس والقمر، كذلك قدر في سماء الدين أيضا نيران هما الصلاة والصوم. الإسلام سماء والصوم شمسها والصلاة قمرها.


والخلاصة أن هذا هو المقصود من تلويحات كلمات المظاهر الإلهية. إذا قد ثبت وتحقق بالآيات النازلة والأخبار الواردة، إطلاق لفظ الشمس والقمر في هذه المراتب، على هذه المقامات المذكورة في الآيات النازلة والأخبار الواردة. وهذا هو المقصود من ذكر ظلمة الشمس والقمر، وسقوط النجوم، أي ضلالة العلماء، ونسخ الأحكام المرتفعة في الشريعة، التي كان مظهر ذلك الظهور يخبر عنها بهذه التلويحات. ولم يكن لغير الأبرار نصيب من كأسها، ولا لغير الأخيار قسمة فيها ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا۳۱.


ومن المسلم أنه في كل ظهور تال، تظلم شمس العلوم والأحكام والأوامر والنواهي، التي كانت مرتفعة في الظهور السابق، والتي أظلت أهل ذلك العصر، واستناروا من شمس معارفها، واهتدوا بقمر أوامرها. أي أنه ينتهي حكمها وينعدم أثرها. فتأملوا الآن: لو كانت أمة الإنجيل قد عرفت المقصود من الشمس والقمر، أو استفسرت عنها من مظهر العلم الإلهي بدون اعتراض ولجاج، لكانت قد وضحت لها معانيها، ولما ابتليت بهذا النوع من ظلمه النفس والهوى. نعم، أنها لما لم تأخذ العلم من مبدئه، ولا من معدنه، لهذا قد انتهت إلى الهلاك في الوادي المهلك، وادي الكفر والضلالة. وإلى الآن لم يشعروا بأن جميع العلامات قد ظهرت، وشمس الموعود قد أشرقت من أفق الظهور. وشمس العلوم قد كورت وأظلمت، وقمر الأحكام والمعارف السابقة قد خسف وغرب. والآن ضع القدم على صراط حق اليقين، بعين علم اليقين، وجناحي عين اليقين ﴿قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ۳۲ حتى تحسب من الأصحاب الذين نزل فيهم، ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ۳۳، وتشهد ببصرك جميع هذه الأسرار.


أي أخي: سر بقدم الروح، حتى تطوى في آن واحد بوادي البعد والهجر النائية، وتدخل في رضوان القرب والوصال، وتفوز في نفس بالأنفس الإلهية، لأن هذه المراحل لا تطوى أبدا بقدم الجسد، ولا يوصل بها إلى المقصود. والسلام على من أتبع الحق بالحق، وكان على صراط الأمر، في شاطئ العرفان، باسم الله موقوفا.


هذا هو معنى الآية المباركة ﴿فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ۳٤، وذلك لأن لكل شمس من هذه الشموس المذكورة محل شروق ومحل غروب. وحيث أن علماء التفسير ما اطلعوا على حقيقة هذه الشموس المذكورة، لهذا تحيروا في تفسير هذه الآية المباركة. فالبعض ذكر فيها أنه لما كانت الشمس في كل يوم تطلع من نقطة غير النقطة التي طلعت منها في يوم أمس، فقد ذكرت بلفظ الجمع، والبعض ذكروا بأن المقصود من ذلك هو الفصول الأربعة، التي في كل فصل منها تطلع الشمس من محل، وتغرب في محل آخر، لهذا قد ذكرت بلفظ المشارق والمغارب، هذه مراتب علم العباد. ومع ذلك فكم ينسبون من الجهل والعيوب إلى الذين هم جواهر العلم ولطائف الحكمة.


كذلك فأدرك واعرف من هذه البيانات الواضحة المحكمة المتقنة غير المتشابهة، معنى انفطار السماء، الذي هو من علامات الساعة والقيامة. ولهذا قال تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ۳٥، إذ المقصود هنا سماء الأديان، التي ترتفع في كل ظهور، ثم تنشق وتنفطر في الظهور الذي يأتي بعده، أي أنها تصير باطلة ومنسوخة. قسما بالله لو تلاحظ


%
تقدم القراءة