نص كتاب الإيقان



فالمقصود من الغنى هو الغنى عما سوى الله، ومن الفقر هو الفقر إلى الله.


وكذلك انظر وتأمل، كيف أن اليهود قد أحاطوا بعيسى ابن مريم ذات يوم، وطلبوا منه الإقرار بما أدعى به من أنه هو المسيح والنبي، ليحكموا عليه بالكفر وينفذوا فيه حد القتل، حتى أحضروا شمس سماء المعاني في مجلس بيلاطس بحضور قيافا الذي كان أعظم علماء ذاك العصر. وأحضروا في ذلك المجلس أيضا جميع العلماء، واجتمع كذلك جمع كبير بقصد التفرج عليه والاستهزاء به وإيذاء حضرته. وحدث أنه كلما استفسروا من حضرته لعلهم يسمعون منه إقرارا، كان حضرته يختار السكوت، وما تعرض للجواب عليهم أبدا إلى أن قام ملعون وجاء في مقابل وجهه وحلفه قائلا: أولم تقل إني مسيح الله؟ وإني ملك اليهود؟ وإني صاحب كتاب وإني مخرب يوم السبت؟ فرفع حضرته رأسه المبارك وأجاب: ﴿أما ترى بأن ابن الإنسان قد جلس عن يمين القدرة والقوة؟۱۲٨، يعني أما ترى ابن الإنسان جالسا عن يمين القدرة والقوة الإلهية. والحال أنه بحسب الظاهر لم يكن موجودا لدى حضرته شيء أبدا من أسباب القدرة إلا القدرة الباطنية التي قد أحاطت بكل من في السموات والأرض. ولا أدري ماذا أذكر بعد هذا القول، مما ورد على حضرته، وماذا صنعوا معه إلى أن تصدوا أخيرا لإيذاء حضرته وقتله حتى فر إلى الفلك الرابع؟


وكذلك مذكور في انجيل لوقا بأن حضرته مر في يوم آخر على أحد من اليهود كان مبتلى بمرض الفالج، وراقدا على السرير. فلما رأى اليهودي حضرته عرفه بالقرائن واستغاث به. فأجاب عيسى قائلا ﴿قم عن سريرك فإنك مغفورة خطاياك۱۲٩ فاعترض بعض اليهود الذين كانوا حاضرين في ذاك المكان قائلين ﴿هل يمكن لأحد أن يغفر الخطايا إلا الله؟۱۳۰ فالتفت المسيح إليهم وقال: ﴿أيّما أسهل أن أقول له قم فاحمل سريرك أم أقول له مغفورة خطاياك لتعلموا بأنَّ لابن الإنسان سلطانًا على الأرض لمغفرة الخطايا۱۳۱. أي أن حضرته لما أن قال لذلك العاجز المسكين قم حقا قد غفرت خطاياك، اعترض جمع من اليهود قائلين هل يقدر أحد أن يغفر للعباد غير الله الغالب القادر؟ فالتفت حضرته إليهم وقال: أيما أسهل عندكم أأقول لهذا المفلوج العاجز قم وامش أم أقول له مغفورة خطاياك لتعلموا أن لابن الإنسان سلطانا على الأرض لغفران ذنوب المذنبين. هذه هي السلطنة الحقيقية وهذا هو اقتدار أولياء الله.


إن المقصود من كل هذه التفاصيل التي تكرر ذكرها في كل مقام ومكان، هو لتطلع على تلويحات كلمات أصفياء الله. لعل القدم لا يزل، والقلب لا يضطرب من بعض العبارات، ونسير على صراط حق يقين بقدم اليقين، لعل يهب علينا نسيم الرضا من رياض القبول الإلهي. ويوصلنا نحن الفانين إلى الملكوت الأبدي ولتكون عارفا بمعاني السلطنة وأمثالها، مما ورد ذكره في الأخبار والآيات.


وزيادة على ذلك، فليكن من المعلوم المحقق لجنابك أن ما تمسك به اليهود والنصارى وكانوا يعترضون به على الجمال الأحمدي هو بعينه ما قد تشبث به أصحاب الفرقان في هذا الزمان، ويعترضون به على نقطة البيان روح من في ملكوت الأمر فداه. فانظر إلى هؤلاء الغافلين الذين يقولون اليوم ما قاله اليهود وهم لا يشعرون. فنعم ما نزل من قبل في شأنهم ﴿ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ۱۳۲. وأيضا ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ۱۳۳.


ولما أشرق غيب الأزل وساذج الهوية، الشمس المحمدية من أفق العلم والمعاني كان من جملة اعتراضات علماء اليهود أنه لن يبعث نبي بعد موسى: نعم، إنه مذكور في الكتاب بأنه لا بد أن تظهر طلعة لتروج ملته ومذهبه، حتى يحيط بكل الأرض شرعة شريعته المذكورة في التوراة. لذلك ينطق سلطان الأحدية عن لسان أولئك الساكنين في وادي البعد والضلالة بقوله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ۱۳٤ أي أن اليهود قالت أن يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما افتروا بل إن أيادي قدرته مبسوطتان ومهيمنتان دائما أبدا ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ۱۳٥.


ولو أن علماء التفسير قد اختلفوا في شرح أسباب نزول هذه الآية، إلا أنه يجب أن تنظر إلى المقصود الذي تنص عليه الآية لا إلى ما تخيله اليهود من أن السلطان الحقيقي قد خلق الطلعة الموسوية، وخلع عليه ثوب الرسالة، وبعدها أصبحت يداه مغلولتين وغير قادر على إرسال رسول بعد موسى. والتفت إلى هذا القول الذي لا معنى له، وكم هو بعيد عن شريعة العلم والمعرفة. وانظر اليوم كيف أن جميع هؤلاء الناس يشتغلون بأمثال هذه الأقوال المزخرفة، وقد مضى عليهم أكثر من ألف سنة وهم يرددون تلاوتها، ويعترضون على اليهود من حيث لا يشعرون. وما التفتوا وما أدركوا بأن ما يقولونه سرا وجهرا هو عين ما يعتقد به اليهود. كما سمعت كيف أنهم يقولون إن جميع الظهورات قد انتهت، وأبواب الرحمة الإلهية قد انسدت. فلا تطلع بعد ذلك شمس من مشارق القدس المعنوية، ولا تظهر أمواج من بحر القدم الصمداني، ولا يأتي هيكل مشهود من خيام الغيب الرباني. هذا هو مبلغ إدراك هؤلاء الهمج الرعاع الذين اعتقدوا بجواز انقطاع الفيض الكلي والرحمة المنبسطة الأمر الذي لا يجوز لأي عقل أو إدراك أن يسلم بانقطاعه. وقد قاموا على الظلم من كل النواحي والأطراف. وبذلوا الهمة لإخماد نار السدرة بأجاج ماء الظنون، وغفلوا عن أن زجاج القدرة يحفظ سراج الأحدية في حصن حفظه. فيكفي هؤلاء القوم ذلة أن بقوا محرومين عن أصل المقصود. محجوبين عن لطيفة الأمر وجوهره. لأن منتهى الفيض الإلهي الذي قدر للعباد، هو لقاء الله وعرفانه الذي به وعد الكل وهذا هو نهاية فيض فياض القدم على عباده، وكمال الفضل المطلق على خلقه، مما لم يرزق به أحد من هؤلاء العباد، ولا تشرف بهاته الشرافة الكبرى. ومع ذلك أنكروها وفسروها حسب أهوائهم كما يقول: ﴿وَالّذينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ۱۳٦. وكذلك يقول: ﴿الّذينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ۱۳۷. وكذلك يقول في موضع آخر: ﴿قَالَ الّذينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً۱۳٨. وفي موضع آخر: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحايُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ۱٤۰ فجميع هذه الآيات دالة على اللقاء، بحيث ما لوحظ في الكتب السماوية حكم أحكم منها مع ذلك أنكروها وجعلوا أنفسهم محرومين من هذه الرتبة السامية العليا والمقام الأعز الأبهى.


وقد ذكر بعضهم أن المقصود من اللقاء هو تجلي الله في يوم القيامة. والحال أنهم لو يقولون إن المقصود هو التجلي العام، فإن هذا التجلي موجود في كل الأشياء كما قد ثبت من قبل أن كل الأشياء هي محل ومظهر لتجلي ذاك السلطان الحقيقي. وأن آثار إشراق شمس المجلي موجودة ولائحة في مرايا الموجودات. بل لو ينظر الإنسان بالبصر المعنوي الإلهي ليشاهد بأنه لا يمكن أن يوجد شيء في الوجود بغير ظهور تجلي السلطان الحقيقي. حيث تلاحظون أن كل الممكنات والمخلوقات حاكية عن ظهور ذاك النور المعنوي وبروزه، وتشاهدون أن أبواب الرضوان الإلهي مفتوحة في كل الأشياء لورود الطالبين في مدائن المعرفة والحكمة، ودخول الواصلين في حدائق العلم والقدرة، كي يشاهدوا في كل حديقة عرائس المعاني جالسة في غرفات الكلمات بنهاية الزينة واللطافة. إذ أن أكثر آيات الفرقان دال على هذا المطلب الروحاني ومشعر به. فقوله: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ۱٤۱، شاهد ناطق بذلك. وقوله: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابا۱٤۲ هو برهان صادق عليه. فالآن لو يكون المقصود من لقاء الله هذه التجليات لكان جميع الناس إذا مشرفين بلقاء طلعة من لا يزال ذاك السلطان عديم المثال ولا يكون هناك داع إذا للتخصيص بالقيامة.


ولو يقولون إن المقصود هو التجلي الخاص كما عبر جمع من الصوفية عن هذا المقام بالفيض الأقدس، فإن هذا التجلي أيضا إن يكن في نفس الذات فإنه في حضرة العلم من الأزل. وعلى فرض التصديق بهذه الرتبة، فإن صدق اللقاء في هذا المقام لا يصدق على أحد لأن هذه الرتبة محققة في غيب الذات ولم يفز بها أحد. (السبيل مسدود والطلب مردود) ۱٤۳لأن هذا المقام لا تطير إليه أفئدة المقربين فكيف تصل إليه عقول ذوي الحدود والحجبات؟


ولو يقولون إنه هو التجلي الثاني المعبر عنه بالفيض المقدس فهذا مسلم به في عالم الخلق أعني في عالم ظهور الأولية وبروز البدعية. وهذا المقام مختص بأنبيائه وأوليائه، إذ لم يكن موجودا في عوالم الوجود من هو أعظم منهم وأكبر كما يقر الجميع بهذا المطلب ويذعنون له. وهؤلاء هم مواقع جميع الصفات الأزلية ومظاهر الأسماء الإلهية. وهم المرايا التي تحكي عنه تماما. وكل ما هو راجع إليهم في الحقيقة، فهو راجع إلى حضرة الظاهر المستور. ولا يمكن أن تحصل معرفة المبدأ الأول والوصول إليه إلا بمعرفة هذه الكينونات المشرقة من شمس الحقيقة والوصول إليها. وإذا من لقاء هذه الأنوار المقدسة يحصل لقاء الله. ومن علمهم يظهر علم الله. ومن وجههم يلوح وجه الله. ومن أولية هذه الجواهر المجردة وآخريتها وظاهريتها وباطنيتها يثبت على من هو شمس الحقيقة بأنه ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ۱٤٤. وكذلك تثبت سائر الأسماء العالية والصفات المتعالية. لهذا فكل نفس صارت في أي ظهور موفقة وفائزة بهذه الأنوار المضيئة الممتنعة، والشموس المشرقة اللائحة، فهي فائزة بلقاء الله وواردة في مدينة الحياة الأبدية الباقية. وهذا اللقاء لا يتيسر لأحد إلا في القيامة، التي هي نفس الله بمظهره الكلي.


وهذا هو معنى القيامة المذكورة والمسطورة في كل الكتب والتي بها وعد جميع الناس وبشروا بذلك اليوم. فانظر الآن هل يتصور يوم أعز من هذا اليوم وأكبر منه وأعظم، حتى يسمح الإنسان لنفسه بأن يفلت من يده مثل هذا اليوم، ويحرم نفسه من فيوضات هذا اليوم الجارية من قبل الرحمن كأمطار الربيع؟ وبعد أن قام الدليل بتمامه على أنه لا يوجد يوم أعظم من هذا اليوم، ولا أعز من هذا الأمر، كيف يجوز لإنسان أن يحرم نفسه من فضل كهذا الفضل الأكبر بكلمات المتوهمين والظانين. وفضلا عن كل هذه الدلائل المحكمة المتقنة التي لا مفر لأي عاقل منها، ولا مهرب لأي عارف عنها، أما سمعوا الرواية المشهورة التي تقول: (إذا قام القائم قامت القيامة)۱٤٥. وكذلك فسر أئمة الهدى والأنوار التي لا تطفى الآية الكريمة: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ۱٤٦


%
تقدم القراءة