نص كتاب الإيقان



بأنها تشير إلى حضرة القائم وظهوره مع أن القوم يعتبرونها من الأمورات المحدثة في يوم القيامة والمسلم بها عندهم.


فيا أيها الأخ أدرك إذا معنى القيامة واعرفه، وطهر السمع عن كلمات هؤلاء المردودين. فإنك لو تسير قليلا في عوالم الانقطاع لتشهد بأنه لا يتصور يوم أعظم من هذا اليوم، ولا قيامة أكبر من هذه القيامة. وإن عملا واحدا في هذا اليوم يعادل بأعمال مائة ألف سنة. بل أستغفر الله عن هذا التحديد، لأن عمل هذا اليوم مقدس عن الجزاء المحدود. وحيث أن هؤلاء الهمج الرعاع ما أدركوا وما عرفوا معنى القيامة ولا لقاء الله، لهذا غدوا محجوبين عن فيضه بالمرة، مع أن المقصود من العلم وتحمل مشقاته هو الوصول إلى هذا المقام ومعرفته. مع ذلك فجميعهم مشغولون بالعلوم الظاهرة بحيث لا ينفكون عنها لحظة. وغضوا الطرف عن جوهر العلم والمعلوم، كأنهم ما تجرعوا رشحا من يم العلم الإلهي، وما فازوا بقطرة من سحاب الفيض الرحماني.


فانظر الآن، هل إذا لم يدرك أحد فيض اللقاء في يوم ظهور الحق، ولا يعرف مظاهر الحق، هل يصدق عليه صفة العالم حتى ولو كان له ألف سنة في التحصيل، وأحاط بجميع العلوم المحدودة الظاهرة؟ كلا – لأنه معلوم بالبداهة أنه لا يصدق في حقه صفة العلم. ولكن إذا لم تطلع نفس على حرف واحد من العلم، وفازت بهذه الشرافة الكبرى، فلا بد أنها محسوبة من العلماء الربانيين، لأنها قد فازت بالغاية القصوى من العلم، وبلغت نهاية منتهاه.


وهذه الرتبة أيضا هي من علائم الظهور كما يتفضل ويقول: (يجعل أعلاكم أسفلكم وأسفلكم أعلاكم)۱٤۷. وكما قال في الفرقان: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ۱٤٨. وقد شوهد اليوم، كم من العلماء نظرا لإعراضهم قد استقروا في أسفل أراضي الجهل، وانمحت أسماؤهم من دفتر العالين والعلماء، وكم من الجهال نظرا لإقبالهم قد ارتقوا إلى أعلى أفق العلم، وأثبتت أسماؤهم في ألواح العلم بقلم القدرة كذلك ﴿يَمْحُوا اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ۱٤٩ ولهذا قالوا: (طلب الدليل عند حصول المدلول قبيح. والاشتغال بالعلم بعد الوصول إلى المعلوم مذموم)۱٥۰. قل يا أهل الأرض هذا فتى ناري، يركض في برية الروح، ويبشركم بسراج الله ويذكركم بالأمر الذي كان عن أفق القدس في شطر العراق تحت حجبات النور بالستر مشهودا.


فيا حبيبي إنك لو تطير قليلا في سماوات معاني الفرقان، وتتفرج على أرض المعرفة المبسوطة فيه، لينفتح على وجهك كثير من أبواب العلوم، وتوقن بأن جميع هذه الأمور التي تمنع العباد في هذا اليوم عن الورود إلى شاطئ البحر الأزلي، هي التي بعينها في ظهور نقطة الفرقان: قد منعت أيضا أهل ذلك العصر عن الإقرار بتلك الشمس، والإذعان لها. وكذلك تطلع على أسرار الرجعة والبعث، وتستقر في أعلى غرف اليقين والاطمئنان.


فانظر من جملة ذلك أن جمعا من الجاحدين لذلك الجمال عديم المثال، والمحرومين من الكعبة الباقية، قد عرضوا على محمد ذات يوم على سبيل الاستهزاء قائلين: ﴿إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ۱٥۱ يعني أن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول ما لم يظهر معجزة هابيل وقابيل، أي يقدم قربانا تنزل عليه النار من السماء فتحرقه، كما سمعتم عن حكاية هابيل، ومما هو مذكور في الكتب. فأجابهم حضرته ﴿قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالّذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ۱٥۲. ومضمونها أن حضرته قال لهم لقد جاءكم من قبلي رسل من عند الله بالبينات الظاهرات وبالذي تطلبونه، فلم قتلتم رسل الله هؤلاء إن كنتم صادقين. فأنصفوا الآن: متى كان هؤلاء العباد الذين كانوا في عصر محمد وعهده بحسب الظاهر موجودين في عهد آدم أو الأنبياء الآخرين، مع أنه كان هناك فاصلة آلاف السنين بين عهد آدم وذاك الزمان؟ فمع ذلك لم نسب جوهر الصدق محمد إلى أهل زمانه قتل هابيل أو الأنبياء الآخرين؟ إنه لا مفر من أن تنسب إلى حضرته والعياذ بالله الكذب، أو الكلام اللغو، أو تقول بأن هؤلاء الأشقياء كانوا هم نفس أولئك الأشقياء الذين كانوا يعارضون الأنبياء والمرسلين في كل عصر إلى أن قتلوهم أخيرا واستشهدوا جميعا.


تفكر وتمعن في هذا البيان، كي يمر عليك طيب نسيم العرفان الهاب من مصر الرحمن، وتبلغ الروح بمليح بيان المحبوب إلى حديقة العرفان. إذ إن الغافلين من الناس لما لم يدركوا معاني هذه البيانات البالغة الكاملة، ولم يجدوا الجواب مطابقا للسؤال حسب زعمهم، كانوا ينسبون إلى تلك الجواهر جواهر العلم والعقل – الجهل والجنون.


وكذلك يقول حضرة الرسول في آية أخرى، في مقام التعريض بأهل زمانه ﴿وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ۱٥۳ أي أن هؤلاء القوم كانوا يقاتلون الكفار ويحاربونهم في سبيل الله، ويطلبون الفتح عليهم لنصرة أمر الله، فلما جاءهم الذي عرفوه كفروا به فلعنة الله على الكافرين. فانظر الآن كيف أن هذه الآية تتضمن هذا المعنى: وهو أن الناس الذين كانوا في زمان حضرته، هم عين الناس الذين كانوا في عهد الأنبياء السابقين، يحاربون ويجادلون لترويج تلك الشريعة، وتبليغ أمر الله. والحال أن الناس الذين كانوا في عهد عيسى وموسى، هم غير الذين كانوا في عهد محمد. وفضلا عن ذلك فإن الشخصين اللذين عرفوهما من قبل، كانا موسى صاحب التوراة، وعيسى صاحب الإنجيل. مع ذلك لم يقول حضرة محمد لما أن جاءهم ما عرفوه أي الذي هو عيسى أو موسى كفروا به؟ والحل أن محمدا كان موسوما بحسب الظاهر باسم آخر هو محمد، وظهر من مدينة أخرى، وجاء بلغة أخرى، وشرع آخر، فمع ذلك كيف يمكن إثبات حكم هذه الآية وإدراك معناها؟.


إذن فإدراك الآن حكم الرجوع الذي نزل في نفس الفرقان بتلك الدرجة من الصراحة، والذي ما فهمه أحد إلى اليوم. والآن فماذا تقول؟ لو تقول إن محمدا كان رجعة الأنبياء الأولين كما هو مستفاد من الآية، فكذلك أصحابه أيضا هم رجعة أصحاب الأنبياء الأولين، حيث إن رجعة عباد القبل واضحة ولائحة أيضا من الآيات المذكورة. ولو ينكرون ذلك يكونون قائلين بخلاف حكم الكتاب الذي هو الحجة الكبرى. إذا فأدرك أنت على هذا المنوال حكم الرجع والبعث والحشر الذي كان في أيام ظهور مظاهر الهوية، حتى ترى بعيني رأسك رجوع الأرواح المقدسة في الأجساد الصافية المنيرة، وتزيل غبار الجهل، وتطهر النفس الظلمانية بماء الرحمة المتدفق من العلم الرحماني، لعل تميز سبيل صبح الهداية من ليل الضلالة بسراجه النوراني، وتفرق بينهما بقوة الرحمن وهداية السبحان.


وليكن في علم جنابك علاوة على ما ذكر أن الحاملين لأمانة حضرة الأحدية الذين يظهرون في العوالم الملكية بحكم جديد وأمر بديع، لما كانت هذه الأطيار – أطيار العرش الباقي – ينزلون من سماء المشيئة الإلهية، ويقومون جميعا على الأمر المبرم الرباني، لهذا هم في حكم نفس واحدة، وذات واحدة. إذ إن الجميع يشربون من كأس المحبة الإلهية، ويرزقون من أثمار شجرة التوحيد. ولمظاهر الحق هؤلاء مقامان مقرران، أولهما مقام صرف التجريد وجوهر التفريد، وفي هذا المقام لو تدعو الكل باسم واحد وتصفهم بوصف واحد فلا بأس في ذلك، كما يقول: ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ۱٥٤ لأنهم جميعا يدعون الناس إلى توحيد الله، ويبشرونهم بكوثر الفيض والفضل الذي لا يتناهى، وكلهم فائزون بخلعة النبوة، ومفتخرون برداء المكرمة. ولهذا يقول محمد نقطة الفرقان: (أما النبيون فأنا)۱٥٥ وكذلك يقول: (إني آدم الأول ونوح وموسى وعيسى)۱٥٦. وكما نطقت الطلعة العلوية بهذا المضمون، وظهرت من مجاري البيانات الأزلية، ومخازن اللآليء العلمية، أمثال هذه البيانات المشعرة بتوحيد مواقع التجريد مما هو مدون في الكتب. وهذه الطلعات هم مواقع الحكم ومطالع الأمر. وهذا الأمر مقدس عن حجبات الكثرة وعوارض التعدد ولهذا يقول: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ۱٥۷ ولما كان الأمر واحدا فلا بد أن يكون مظاهر الأمر أيضا واحدا. وكذلك نطق أئمة الدين، وسرج اليقين في الدين الإسلامي – قالوا: (أولنا محمد، وآخرنا محمد، وأوسطنا محمد)۱٥٨.


وخلاصة القول إن من المعلوم والمحقق لجنابك، أن جميع الأنبياء هم هياكل أمر الله الذين ظهروا في أقمصة مختلفة. وإذا ما نظرت إليهم بنظر لطيف لتراهم جميعا ساكنين في رضوان واحد، وطائرين في هواء واحد، وجالسين على بساط واحد، وناطقين بكلام واحد، وآمرين بأمر واحد. وهذا هو اتحاد جواهر الوجود والشموس غير المحدودة والمعدودة. فإذا لو يقول أحد من هذه المظاهر القدسية، إني رجعة كل الأنبياء فهو صادق. وكذلك يثبت في كل ظهور لاحق صدق رجوع الظهور السابق. وإذا كان قد ثبت رجوع الأنبياء وفقا للآيات وطبقا للأخبار، كذلك يثبت ويتحقق رجوع الأولياء أيضا. وهذا الرجوع أظهر من أن يحتاج إلى أي دليل أو برهان. فانظروا مثلا إن من جملة الأنبياء نوحا عليه السلام، وإنه لما أن بعث بالنبوة وقام على الأمر بقيام إلهي، أصبح كل من آمن به وأذعن لأمره في الحقيقة مشرفا بحياة جديدة. ويصدق في حقه أنه قد منح حياة جديدة وروحا جديدة، إذ إنه قبل الإيمان بالله والإذعان لمظهر نفسه، كان عنده كمال التعلق بالأموال والأسباب المتعلقة بالدنيا من قبيل الأزواج والأولاد والطعام والشراب وأمثالها بدرجة أنه كان يقضي الليل والنهار في الحصول على الزخارف الدنيوية، واستجماع اللهو والترف، ويبذل الهمة في اقتناء الأشياء الفانية. وعلاوة على ما ذكر فإنه قبل الورود على لجة الإيمان، كان راسخا في حدود الآباء والأجداد، وثابتا في اتباع آدابهم وشرائعهم، على شأن لو كان يحكم عليه بالقتل، ربما كان يرضى به، ولا يقبل تغيير حرف من الأمور التقليدية التي كانت موجودة بين قومه. وذلك كما صاح القوم كلهم بنداء ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ۱٥٩.


على أن هؤلاء القوم مع تقيدهم بهذه الحجبات المحدودة، والحدودات المذكورة، فإنهم بمجرد ما كانوا يتجرعون صهباء الإيمان من كأس الإيقان من أيادي مظاهر السبحان، كانوا ينقلبون بالمرة بحيث أنهم كانوا ينقطعون عن الأزواج، والأولاد والأموال، والمتاع، والأرواح والإيمان. بل عن كل ما سوى الله. وتأخذهم غلبات الشوق الإلهي، وجذبات الذوق الصمداني على شأن ما كانوا يقيمون للدنيا وما فيها وزنا. فهل لا ينطبق على هؤلاء


%
تقدم القراءة