نص كتاب الإيقان



لآلئ الأحدية، وليس هذا مجال ذكرها. ولكن بحسب الظاهر مقصود حضرته مما خاطبه به هو أن يا محمد، إن هذا الكتاب المنزل من سماء الأحدية لا ريب ولا شك فيه، وهو هدى للمتقين، فلاحظوا بأن هذا الفرقان قد قرره وقدره لهداية كل من في السموات والأرض، وشهد ذات الأحدية، وغيب الهوية بنفسه على أنه لا شك ولا شبهة فيه، وأنه هاد للعباد إلى يوم الميعاد، فهل من الإنصاف أن يشك هؤلاء العباد، ويشتبهوا في الثقل الأعظم الذي شهد الله بأحقيته وحكم بها؟ أو يعرضوا عن الأمر الذي جعله سببا للهداية، والوصول إلى معارج العرفان؟ ويطلبون أمرا آخر ويتشككون بزخرف أقوال الناس قائلين: إن فلانا قال كذا وكذا، وأن الأمر الفلاني ما ظهر. والحال لو أن هناك أمرا أو شيئا غير كتاب الله يكون علة وسببا لهداية الخلق، لذكر حتما في الآية المذكورة.


والخلاصة أنه يجب علينا ألا نتجاوز عن الأمر المبرم الإلهي، ولا عن التقدير المقدر الصمداني المذكور في الآية، ونصدق بالكتب البديعة، لأننا إذا لم نصدق بهذه الكتب، فلا يتحقق التصديق بهذه الآية المباركة، كما هو واضح من أن أي إنسان لم يصدق بالفرقان فإنه في الحقيقة لم يصدق أيضا بالكتب المنزلة من قبل. وهذه هي المعاني المستفادة من ظاهر الآية. ولو نذكر معانيها المستورة ونبين أسرارها المكنونة، فلا شك أن الزمان لا يكفي لذلك والكون لا يحتمله، وكان الله على ما أقول شهيدا.


وكذلك يقول في مقام آخر: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ۱٩٩.


مما ترجمته الظاهرة، أنه لو كنتم في شك وشبهة مما نزلنا على عبدنا محمد، فأتوا بسورة من مثل هذه السورة المنزلة، وادعوا شهداءكم أي علماءكم حتى يعينوكم على إنزال سورة إن كنتم صادقين. فانظر الآن كم هو عظيم شأن الآيات وكبير قدرها، حيث قد ختم بها الحجة البالغة والبرهان الكامل والقدرة القاهرة والمشيئة النافذة. وما أشرك سلطان الأحدية في إظهار حجته أي شيء معها، لأن الآيات بين الحجج والدلائل هي بمنزلة الشمس، وما سواها بمنزلة النجوم. وإنها لهي الحجة الباقية، والبرهان الثابت، والنور المضيء بين العباد من لدن السلطان الحقيقي. لا يبلغ فضلها فضل، ولا يسبقها أي أمر وهي كنز اللآلئ الإلهية، ومخزن الأسرار الأحدية، وإنها لهي الخيط المحكم، والحبل المتين، والعروة الوثقى، والنور الذي لا يطفى. تجري منها شريعة المعارف الإلهية، وتفور منها نار الحكمة البالغة الصمدانية، وهي نار لها أثران ظاهران في آن واحد: في المقبلين تحدث حرارة الحب، وفي المبغضين برودة الغفلة.


أيها الرفيق، ينبغي لنا ألا نتجاوز عن أمر الله، ونرضى بما جعله حجته ونخضع له. والخلاصة أن حجة هذه الآية المنزلة وبرهانها، لأعظم من أن يستطيع هذا العليل إقامة الدليل عليها. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وهو القاهر فوق عباده وهو العزيز الجميل.


وكذلك يقول تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ۲۰۰. أي يقول هذه آيات منزلة من سماء الهوية نتلوها عليك، فبأي حديث بعد ظهور الحق ونزول آياته يؤمنون؟ ولو تلتفت إلى تلويح هذه الآية لتفقه أنه لم يكن هناك أبدا مظهر أكبر من الأنبياء ولم تظهر أيضا في الأرض حجة أكبر ولا أعظم من الآيات المنزلة، بل إنه لم يكن في الإمكان حجة أعظم من هذه الحجة إلا ما شاء ربك.


وكذلك يقول في مقام آخر: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ۲۰۱ يعني ويل لكل أفاك أثيم، يسمع الآيات النازلة من سماء المشيئة الإلهية تتلى عليه، ثم يستكبر كأن لم يسمعها، فبشره بعذاب أليم. وإن الإشارة في هذه الآية لتكفي كل من في السموات والأرض لو كان الناس في آيات ربهم يتفرسون. وإنك لتسمع اليوم كيف أنه إذا تليت الآيات الإلهية لا يعتني بها أحد، كأن أحقر الأمور عندهم هي الآيات الإلهية والحال أنه ما كان ولن يكون هناك أمر أعظم من الآيات. قل لهم أيها الغافلون إنكم تقولون ما قاله آباؤكم من قبل، فلو أنهم جنوا ثمرا من شجرة إعراضهم فسوف تجنونه أنتم أيضا. وعن قريب سوف تستقرون في النار مع آبائك. فالنار مثواهم فبئس مثوى الظالمين.


ويقول تعالى في مقام آخر: ﴿وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ۲۰۲ يعني إذا علم من آياتنا شيئا اتخذها على سبيل الاستهزاء، فلهم عذاب مهين. ومن جملة الاستهزاء أنهم كانوا يقولون أظهر لنا معجزة أخرى وائتنا ببرهان آخر، فكان يقول أحدهم: ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء۲۰۳ والآخر كان يذكر: ﴿إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ۲۰٤. وبمثل ما استبدل اليهود في عهد موسى المائدة السماوية بالأشياء الخبيثة من قبيل الثوم والبصل، كذلك طلب هؤلاء القوم أيضا تبديل الآيات المنزلة بالظنونات النجسة الكثيفة. كما تشاهد اليوم، أن المائدة المعنوية نازلة من سماء الرحمة الإلهية وغمام المكرمة السبحانية. وأن بحور الحيوان في موج وجريان، في رضوان الجنان، بأمر خالق كن فكان. والجميع مجتمعون كالكلاب على الأجساد الميتة، وقانعون بالبركة المالحة التي هي ملح أجاج. سبحان الله! إننا لفي غاية الحيرة من عباد يطلبون الدليل بعد ارتفاع أعلام المدلول. ويتمسكون بإشارات العلم بعد ظهور شمس المعلوم. مثلهم كمن يطلب من الشمس حجة لإثبات نورها، أو يطلب من أمطار الربيع برهانا لإثبات فيضها. فحجة الشمس نورها الذي أشرق وأحاط العالم، وبرهان الربيع جوده الذي جدد العالم برداء جديد. على أن الأعمى لا يعرف للشمس أثرا غير حرارتها. والأرض الجرز ليس لها نصيب من رحمة الربيع


(فلا عجب إن لم يكن لهم نصيب من القرآن غير النقش كما أنه ليس للأعمى نصيب من الشمس إلا الحرارة)۲۰٥


وفي مقام آخر يقول: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاّ أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ۲۰٦ فانظر أي حجج كانوا يحتجون بها على مظاهر الرحمة الكاملة الواسعة. إنهم كانوا يستهزؤن بالآيات، التي كل حرف منها أعظم من خلق السموات والأرض، وبها يحيا أموات وادي النفس والهوى بروح الإيمان. وكانوا يقولون أخرج لنا آباءنا من القبور. فبمثل هذا كان إعراض القوم واستكبارهم، مع أن كل واحدة من هذه الآيات حجة محكمة لكل من على الأرض، وبرهان أعظم يكفي كل من عليها لو أنتم في آيات الله تتفكرون. وإن في هذه الآية المذكورة لمكنون لآلئ الأسرار. ومن طلب وجد وجد.


إياك والإصغاء إلى زخرف أقوال العباد الذين يدعون بأن الكتاب والآيات ليس بحجة للعوام لأنهم لا يفهمونها ولا يدركونها مع أن هذا القرآن حجة لأهل المشرق والمغرب. وإن لم يكن في مقدور الناس إدراكه كيف يكون حجة على الجميع؟ ولو صح ما يدعون لما كان هناك تكليف على نفس، أو إلزام لها بعرفان الله لأن عرفانه أعظم من عرفان كتابه. والعوام ليس عندهم استعداد لإدراكه.


والخلاصة أن هذا القول في منتهى اللغو والسخافة. وكله يقال من باب الكبر والغرور، كي ما يبعدون الناس عن رياض رضاء الله، ويقبضون على زمامهم في أيديهم قبضا محكما. مع أن هؤلاء العوام أكثر قبولا ورضاء لدى الحق من علمائهم الذين أعرضوا عنه. والحال أن فهم الكلمات الإلهية، وإدراك بيانات الحمامات المعنوية، ليس له أي دخل بالعلم الظاهري. بل هو منوط بصفاء القلب، وتزكية النفوس، وتجرد الروح. كما هو مشهود الآن في فئة من العباد الذي ما عرفوا حرفا من رسوم العلم، لكنهم جالسون على رفرف العلم، ورياض قلوبهم مزينة بأوراد الحكمة وأنهار المعرفة، من سحاب الفيض الإلهي. فطوبى للمخلصين من أنوار يوم عظيم.


وكذلك يقول: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ۲۰۷. وكذا يقول: ﴿وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ۲۰٨. ومضمون هذه الآية واضح. فانظر ماذا كانوا يقولون بعد تنزيل الآيات، أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون. فكانوا يسمون حضرته شاعرا ويسخرون من الآيات الإلهية. ويقولون إن هذه الكلمات، إن هي إلا أساطير الأولين. يعنون بذلك الكلمات التي قيلت من قبل، وأن محمدا جمعها ثم يقول إنها من عند الله.


كذلك قد سمعت اليوم بأمثال هذه الأقوال، مما ينسبونه إلى هذا الأمر، ويقولون إن هذه الكلمات قد جمعها من الكلمات التي نزلت من قبل، أو هي كلمات مغلوطة. قد كبر قولهم وصغر شأنهم وحدهم.


لهذا قالوا بعد هذه الإنكارات والاعتراضات المذكورة، إنه بحسب ما في الكتب، لا يجوز أن يبعث نبي مستقل من بعد موسى وعيسى يكون ناسخا للشريعة. بل يجب أن يأتي شخص يكمل الشريعة السابقة. فنزلت هذه الآية المباركة المشعرة بجميع المطالب الإلهية والدالة على عدم انقطاع الفيوضات الرحمانية. قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حتّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ۲۰٩ أي مرتاب في ربه. فأدركوا من هذه الآية، وتيقنوا أنه في كل عصر، كان يتمسك أمم ذلك العهد بآية من الكتاب، وينطقون بمثل هذه الأقوال المزخرفة، من أنه لا يجوز أن يأتي نبي آخر في عالم الإبداع، مثل ما استدل علماء الإنجيل بالآية المذكورة فيه بأنه لا يرفع حكم الإنجيل أبدا. ولا يبعث نبي مستقل إلا لإثبات شريعة الإنجيل.


وأكثر الملل مبتلون بهذا المرض الروحي. كما ترى، كيف أن أهل الفرقان قد احتجبوا بذكر خاتم النبيين، على مثال الأمم السابقة. مع أنهم مقرون بقوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ۲۱۰ ولما يبين الراسخ في العلوم وأمها ونفسها وذاتها وجوهرها بيانا فيه مخالفة


%
تقدم القراءة