نص كتاب الإيقان



وكذلك البيانات الأخرى المذكورة في الكتب والمثبوتة فيها تدل على هذا المطلب العالي وتلك الكلمة المتعالية. وكذلك الآية المباركة التي نزلت في حق حمزة سيد الشهداء، وفي حق أبي جهل إنها لبرهان واضح على ذلك، وحجة لائحة حيث تقول ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النّاس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا۱۲۱، وهذه الآية قد نزلت من سماء المشيئة عندما ارتدى حمزة رداء الإيمان المقدس وكان أبو جهل ثابتا على الكفر وراسخا في الإعراض. فصدر من مصدر الألوهية الكبرى ومكمن الربوبية العظمى حكم الحياة بعد الموت في حق حمزة، وعلى نقيض ذلك في حق أبي جهل، مما أشعل نائرة الكفر في قلوب المشركين، وحرك فيهم هوى الإعراض. وعلى هذا صرخوا وصاحوا قائلين: في أي زمان مات حمزة ومتى قام من الموت؟ وفي أي وقت جاءته هذه الحياة؟ ولما لم يدركوا هذه البيانات الشريفة، ولم يسألوا أيضا أهل الذكر حتى يبذلوا لهم رشحا من كوثر المعاني، لهذا شاع في العالم أمثال هذا النوع من الفساد.


إنك لترى اليوم أنه مع وجود شمس المعاني فإن جميع الناس من الأعالي والأداني متمسكون بالجعل الظلمانية والمظاهر الشيطانية، وعلى الدوام يستفسرون منهم عن مشكلات مسائلهم. وهؤلاء نظرا لعدم عرفانهم يجيبون بجواب لا يترتب منه ضرر على أسباب معاشهم، ولا على مكانتهم بين الناس. ومن الواضح المعلوم أن الجعل نفسه ما فاز بنصيب من نسيم مسك البقاء، وما دخل في رضوان الرياحين المعنوية، فكيف مع هذا يمكنه أن يعطر مشام الآخرين؟ ولم يزل كان هذا شأن هؤلاء العباد ولا يزال يكون كذلك. ولن يفوز بآثار الله إلا الذين هم أقبلوا إليه وأعرضوا عن مظاهر الشيطان. وكذلك أثبت الله حكم اليوم من قلم العزة على لوح كان خلف سرادق العز مكنونا. ولو التفت إلى هذه البيانات وتفكرت في ظاهرها وباطنها لعرفت جميع المسائل المعضلة التي هي اليوم سد بين العباد وبين معرفتهم يوم التناد. وما احتجت بعد ذلك إلى سؤال ولا إلى جواب. ونرجو إن شاء الله ألا ترجع من شاطئ البحر الإلهي ظمآنا محروما، وألا تؤوب من حرم المقصود الأزلي بدون قسمة ولا نصيب. وهذا متوقف على همتكم ومسعاكم.


وخلاصة المقال أن المقصود من هذه البيانات الواضحة هو لإثبات سلطنة سلطان السلاطين. فأنصفوا الآن أي السلطنتين أكبر وأعظم، أتلك السلطنة التي بحرف واحد وبيان واحد، صار لها كل هذا التصرف والغلبة والهيمنة، أم سلطنة أولئك السلاطين الذين بحسب الظاهر يخضع الناس لهم أياما معدودات بفضل إعانة الرعايا ومعاونة الفقراء لهم؟ بينما هم في الحقيقة معرضون ومدبرون عنهم بالقلوب. وهذه السلطنة قد سخرت العالم بحرف واحد ومنحته الحياة وأفاضت عليه الوجود – ما للتراب ورب الأرباب! بل كيف يمكن أن تذكر هناك نسبة مع أن كل النسب مقطوعة لدى ساحة قدس سلطنته؟ وإذا ما أمعنت النظر لشاهدت أن خدام عتبته لهم سلطنة على كل المخلوقات والموجودات كما ظهر ويظهر.


وبالاختصار هذا هو معنى من معاني السلطنة الباطنية التي أشرنا إليها بحسب استعداد الناس وقابليتهم، وإلا فلنقطة الوجود وطلعة المحمود سلطنات أخرى، هذا المظلوم غير قادر على إظهار مراتبها ومقاماتها، والخلق غير لائق لإدراكها – فسبحان الله عما يصف العباد في سلطنته وتعالى عما هم يذكرون.


إني أسأل جنابك عما إذا كان المقصود من السلطنة هو الحكم الظاهري والغلبة والاقتدار الدنيوي الظاهري، الذي يقهر كل الناس ويخضعهم، ويجعلهم طائعين له في الظاهر، ومنقادين إليه حتى بذلك يكون الأحباء مستريحين ومعززين، والأعداء مخذولين ومنكوبين – فإن هذا النوع من السلطنة لا يصدق في حق رب العزة، الذي من المسلم أن السلطنة تكون باسمه، والجميع يعترف بعظمته وشوكته. إذ أنك تشاهد الآن أن أكثر الأرض تحت تصرف أعدائه. والجميع يسيرون على خلاف رضائه. وكلهم كافر ومعرض ومدبر عما أمر به. ومقبل وفاعل لما نهي عنه. وأحباؤه دائما مقهورون ومبتلون تحت يد الأعداء. وكل هذا واضح وأظهر من الشمس.


إذا فاعلم أيها السائل الطالب، إن السلطنة الظاهرة ما كانت أبدا ولن تكون يوما ما معتبرة لدى الحق وأوليائه. وعلاوة على ذلك فإنه إذا كان المقصود من الغلبة والقدرة هو القدرة والغلبة الظاهرية فإن الأمر يكون في غاية الصعوبة والإشكال على جنابك، حيث يقول تعالى: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ۱۲۲. ويقول في مقام آخر ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ۱۲۳ وقوله في مقام آخر هو الغالب فوق كل شيء. كما أن أكثر آيات الفرقان صريحة في هذا المطلب.


وأما إذا كان المقصود من هذا هو ما يقول به هؤلاء الهمج الرعاع فلا مفر لهم من إنكار جميع هذه الكلمات القدسية، والإشارات الأزلية، لأنه لم يكن هناك مجاهد من جند الله على وجه الأرض أعلى ولا أقرب إلى الله من الحسين بن علي. إذ لم يكن لحضرته مثل ولا شبه على وجه الأرض. لولاه لم يكن مثله في الملك. ومع هذا فقد سمعت ما وقع له – ألا لعنة الله على القوم الظالمين.


والآن لو تفسر هذه الآية حسب الظاهر فإنها لا تصدق بحال من الأحوال في أولياء الله وجنوده، لأن حضرته قد ذاق كأس الشهادة بنهاية المغلوبية والمظلومية في كربلاء في أرض الطف، مع أن بسالته وجنديته كانت لائحة وواضحة كالشمس وكذلك قوله في الآية المباركة ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ۱۲٤. لو كانت تفسر تفسيرا حرفيا بالسلطنة الظاهرية، فإنها لا تتفق أبدا، لأنهم كانوا دائما يطفئون الأنوار الإلهية بحسب الظاهر ويخمدون السرج الصمدانية فمن أين مع هذا كانت تظهر الغلبة؟ ثم انظر إلى المنع الوارد في الآية الشريفة قوله: ﴿وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ۱۲٥ فأي معنى لنوره هنا؟ إذ قد لوحظ أن جميع الأنوار لم يجدوا محل أمن ليستريحوا فيه من ظلم المشركين ولم يذوقوا طعم الراحة. وكانت مظلومية هذه الأنوار على شأن أن أي إنسان كان يستطيع أن يفعل بجواهر الوجود هؤلاء كل ما كان يريده. كما عرف الناس كل ذلك وأدركوه وأحصوه. وكيف مع هذا يستطيع هؤلاء الناس أن يفهموا ويفسروا معنى وبيان هذه الكلمات الإلهية وآيات العز الصمدانية؟


والخلاصة أن المقصود ليس كما تصوره بل إن المقصود من الغلبة والقدرة والإحاطة هو مقام آخر وأمر آخر. مثلا انظروا إلى غلبة قطرات دم حضرة الحسين الذي سفك على التراب وكيف كان لهذا التراب من تأثير في أجساد الناس، وغلبة ونفوذ على أرواحهم بسبب شرافة هذا الدم وغلبة نفوذه، بحيث وصل الأمر إلى حد أن كل من أراد الاستشفاء من أسقامه، كان يشفى إن رزق بذرة منه. وكل من أراد حفظ ماله ووضع في بيته مقدارا من هذا التراب المقدس بيقين كامل، ومعرفة ثابتة راسخة حفظت جميع أمواله. وهذه مراتب تأثيراته في الظاهر. ولو أنني أذكر تأثيراته الباطنية فلا بد أن يقال إنه اعتبر التراب رب الأرباب، وخرج بالكلية عن دين الله.


وكذلك فانظر إلى شهادة الحسين وكيف كانت بنهاية الذلة. وتفكر كيف لم يكن معه أحد لينصره في الظاهر أو يغسله ويكفنه. مع ذلك ترى اليوم كم من الناس يشدون الرحال من أطراف البلاد وأكنافها ليحضروا في تلك الأرض، ويضعوا رؤوسهم على تلك العتبة. هذه هي الغلبة والقدرة الإلهية، والشوكة والعظمة الربانية.


إياك أن تتصور أن تلك الأمور حدثت بعد شهادة الحسين وأن ليس لها فائدة أو ثمرة بالنسبة لحضرته. ذلك لأن حضرته حي أبدا بالحياة الإلهية، وساكن في رفرف امتناع القرب، ومقيم في سدرة ارتفاع الوصل. فجواهر الوجود هؤلاء قائمون في مقام الإنفاق بكل ما عندهم، بمعنى أنهم أنفقوا وينفقون أرواحهم وأموالهم وأنفسهم كلها في سبيل المحبوب. وليس لديهم مرتبة أحب من هذا المقام، إذ ليس للعاشقين مطلب إلا رضاء المعشوق، ولا مقصد إلا لقاء المحبوب.


وإني لو أريد أن أذكر لك رشحا من أسرار شهادة الحسين ونتائجها، فإن هذه الألواح لا تكفيها ولا تصل إلى نهايتها، وإني آمل إن شاء الله أن يهب نسيم الرحمة، وتلبس شجرة الوجود خلعة جديدة من الربيع الإلهي، حتى نهتدي إلى أسرار الحكمة الربانية، ونستغني بعنايته عن عرفان كل شيء. وإلى الآن لم نشاهد أحدا فائزا بهذا المقام إلا عددا قليلا ليسوا معروفين بين الناس. فلننتظر ما يقضي به قضاء الله، وما يظهر من خلف سرادق الإمضاء. كذلك لكم من بدائع أمر الله ونلقي عليكم من نغمات الفردوس لعلكم بمواقع العلم تصلون، ومن ثمرات العلم ترزقون.


إذا فاعلم علم اليقين بأن شموس العظمة هؤلاء، إن يكونوا جالسين على التراب، فإنهم في الحقيقة مستقرون على العرش الأعظم وإن لم يكن لديهم فلس واحد فإنهم يكونون طائرين في أعلى مدارج الغنى. وإن يكونوا مبتلين تحت يد الأعداء فإنهم يكونون ساكنين على يمين القدرة والغلبة. وإن يكونوا في كمال الذلة الظاهرة، فإنهم يكونون جالسين ومتكئين على عرش العزة الصمدانية. وإن يكونوا في نهاية العجز الظاهري، فإنهم يكونون قائمين على كرسي السلطنة والاقتدار.


بناء على هذا جلس عيسى ابن مريم يوما من الأيام على كرسي، ونطق ببيانات من نغمات روح القدس، مضمونها: أيها الناس، إن غذائي هو من نبات الأرض أسد به الجوع، وفراشي سطح الغبراء وسراجي في الليالي ضياء القمر، وركوبتي أقدامي، فمن أغنى مني على وجه البسيطة؟ قسما بالله إن مائة ألف نوع من الثروة والغنى طائف حول هذا الفقر، وإن مائة ألف من ملكوت العزة طالب لهذه الذلة. ولو تفوز برشح من بحر هذه المعاني لتنقطع عن عالم الملك والوجود، وتفدى بروحك كالفراش حول السراج الوهاج.


ومثل هذا قد روى عن حضرة الصادق من أن شخصا من الأصحاب اشتكى من الفقر لدى حضرته ذات يوم، فقال له ذاك الجمال الأبدي – إنك غني وشربت من شراب الغنى. فتحير ذاك الفقير من بيان ذاك الوجه المنير. وقال كيف أكون غنيا وأنا محتاج إلى درهم؟ فقال له حضرته – أو ليست محبتنا في قلبك؟ فأجاب بلى يا ابن رسول الله. فقال له هل تبيعها بألف دينار؟ فأجاب، أني لا أستبدلها بالدنيا وما خلق فيها- فقال حضرته: كيف يكون فقيرا من عنده مثل هذا الكنز الذي لا يرضى عنه بالعالم بديلا۱۲٦.


هذا الفقر والغنى وهذه الذلة والعزة، والسلطنة والقدرة، وما دونها مما هو معتبر عند هؤلاء الهمج الرعاع، إنه ليس شيئا مذكورا لدى تلك الساحة، كما يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النّاس أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ۱۲۷. إذا


%
تقدم القراءة