نص كتاب الإيقان



النفوس الذين انقطعوا في رضاء الحق عن النفس والمال والاسم والرسم والصيت والشهرة؟.


ألم يكونوا يعتبرون من قبل أن أمر سيد الشهداء الحسين بن علي، كان أعظم الأمور وأكبر الأدلة على أحقية حضرته؟ وكانوا يقولون بأنه ما حدث في العالم أمر مثله. وما ظهر حق بهذه الاستقامة وبهذا الظهور. مع أن أمر حضرته لم يمتد لأكثر من الصبح إلى الظهر. ولكن هذه الأنوار المقدسة قد قضت ثمانية عشر عاما، والبلايا نازلة عليهم كالمطر من جميع الجهات. وهم ينفقون الروح بكل ارتياح في سبيل السبحان، بمنتهى العشق والذوق والحب والمحبة كما هو واضح ومثبوت للجميع، فكيف مع هذا يعدون هذا الأمر سهلا؟ هل ظهر في أي عصر مثل هذا الأمر الخطير؟ وإذا لم يكن هؤلاء الأصحاب مجاهدين في الله، فمن غيرهم يكون مجاهدا؟ وهل هؤلاء كانوا طلاب عزة ومكانة وثروة؟ وهل كان لديهم مقصد غير رضاء الله؟ وإذا كان كل هؤلاء الأصحاب، مع ما لهم من هذه الآثار العجيبة والأفعال الغريبة على الباطل، فمن غيرهم يكون لائقا لدعوى الحق؟ قسما بالله إن فعلهم هذا لحجة كافية ودليل واف لجميع من على الأرض، لو كان الناس في أسرار الأمر يتفكرون ﴿وَسَيَعْلَمُ الّذينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ۲۱٩.


وعلاوة على ذلك، فإن علامة الصدق والكذب معلومة ومقررة في الكتاب. فيجب أن يمتحن إدعاء ودعاوي كل العباد بهذا المحك الإلهي، حتى يميز الصادق من الكاذب. ولهذا يقول: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ۲۲۰. فانظروا الآن كيف أنه مع وجود هؤلاء الشهداء الصادقين، الذين نص الكتاب شاهد لهم على صدق قولهم، كما رأيت أنهم جميعا أنفقوا أرواحهم وأموالهم ونساءهم وأولادهم وكل ما يملكون، وعرجوا إلى أعلى غرف الرضوان، فهل شهادة هذه الطلعات العالية والأنفس المنقطعة في تصديق هذا الأمر العالي المتعالي تكون غير مقبولة؟ وهؤلاء القوم الذين يتركون المذهب لأجل الذهب، ويحترزون عن أول ما صدر من جانب الله لأجل الجلوس في الصدر، تكون شهادتهم على بطلان هذا النور اللائح جائزة ومقبولة؟ مع أن جميع الناس قد عرفوهم، وعلموا من أطوارهم أنهم لا يتجاوزون عن الاعتبار الظاهري الملكي بمقدار ذرة واحدة في سبيل الدين الإلهي. فكيف إذا بلغ التجاوز إلى النفس والمال وغيره؟ فانظر الآن كيف أن المحك الإلهي قد فرق بنص الكتاب وميز الخالص من المغشوش. ومع ذلك هم إلى الآن غير مستشعرين، وفي نوم الغفلة مشغولون بكسب الدنيا الفانية والرياسة الظاهرية. ﴿يا ابن الإنسان قد مضى عليك أيام، واشتغلت فيها بما تهوى به نفسك من الظنون والأوهام. إلى متى تكون راقدا على بساطك. فارفع رأسك عن النوم؛ فإن الشمس ارتفعت في وسط الزوال، لعل تشرق عليك بأنوار الجمال۲۲۱. والسلام.


ولكن فليعلم بأن هؤلاء العلماء والفقهاء الذين ذكروا لم يكن أحد منهم من ذوي الرياسة الظاهرة، لأن من المحال أن يتبع الحق علماء العصر المقتدرون والمعروفون والجالسون على صدر الحكم والمستقرون على سرير الأمر إلا من شاء ربك. فإن مثل هذا الأمر لم يظهر في العالم إلا قليلا ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ۲۲۲ كما أنه لم يقبل في هذا العهد أحد من العلماء المشهورين الذين كان في قبضة حكمهم زمام الناس، بل سعوا في دفع هذا الأمر ورده بتمام البغض والإنكار، على نحو لم تسمع به أذن، ولم تره عين.


ولقد أصدر حضرة الباب الرب الأعلى، روح ما سواه فداه، توقيعا مخصوصا لجميع علماء كل بلد، ذكر في توقيع كل منهم مراتب إعراضه وإغماضه بالتفصيل، ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ۲۲۳ ومقصوده من هذا الذكر هو لكيلا يعترض أهل البيان حين ظهور المستغاث في القيامة الأخرى بأنه في ظهور البيان قد آمن جمع من العلماء، فلماذا لم يحصل مثله في هذا الظهور؟ ويتمسكون والعياذ بالله بأمثال هذه الزخارف، ويحرمون أنفسهم من الجمال الإلهي؟ نعم إن هؤلاء العلماء المذكورين لم يكن أكثرهم من المعروفين، وبفضل الله كانوا جميعا مقدسين عن الرياسة الظاهرة ومنزهين عن الزخارف الفانية. ذلك من فضل الله يؤتيه من يشاء.


وهناك برهان آخر ودليل لائح كالشمس بين الدلائل ألا وهو - استقامة ذلك الجمال الأزلي على الأمر الإلهي. فإنه مع كونه كان في سن الشباب فإنه قد قام مع هذا بأمر مخالف لكل أهل الأرض من الوضيع والشريف، والغني والفقير، والعزيز والذليل، والسلطان والرعية، كما سمع بذلك الكل، ولم يخف من أحد، ولم يعتن بأي نفس. فهل يكون هذا بغير أمر إلهي، ومشيئة مثبتة ربانية؟ قسما بالله لو يتطرق في فكر أحد أمر كهذا، ويتخيله في نفسه لينعدم في الحين، ولو يجتمع في قلبه كل القلوب، فإنه لا يتجاسر أيضا على مثل هذا الأمر المهم، إلا بإذن من الله، وأن يكون قلبه متصلا بالفيوضات الرحمانية، ونفسه مطمئنة بالعنايات الربانية. فيا هل ترى علام يحملون هذا! أينسبونه للجنون كما نسبوه للأنبياء من قبل؟ أم يقولون بأنه تعرض لهذه الأمور من أجل الرياسة الظاهرة، وجمع زخارف الدنيا الفانية؟.


سبحان الله إنه في أول كتاب من كتبه الذي سماه قيوم الأسماء، وهو أول جميع كتبه، وأعظمها وأكبرها، قد أخبر عن شهادته. وفي مقام منه ذكر هذه الآية قائلا: ﴿يَا بَقِيَّةَ اللهِ قَدْ فَدَيْتُ بِكُلِّي لَكَ، وَرَضِيْتُ السَّبَّ فِي سَبِيلِكَ، وَمَا تَمَنَّيْتُ إِلَّا القَتْلَ فِي مَحَبَّتِكَ وَكَفَى بِاللهِ العَلَيِّ مُعْتَصِمًا قَدِيمًا۲۲٤.


وكذلك في تفسير الهاء تمنى لنفسه الشهادة قائلا: ﴿كَأَنِّي سَمِعْتُ مُنَادِيًا يُنَادِي فِي سِرِّي إِفْدِ أَحَبَّ الأَشيَاءِ إِلَيْكَ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَا فَدَى الحُسَينُ عليه السّلام فِي سَبِيلِي. وَلَولَا كُنْتُ نَاظِرًا بِذَلِكَ السِّرِّ الواقِعِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ اجْتَمَعُوا مُلُوكُ الأَرضِ، لَنْ يَقْدِرُوا أَن يَأْخُذُوا مِنِّي حَرفًا، فَكَيْفَ العَبِيدُ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُم شَأْن بِذَلِكَ، وَإِنَّهُم مَطْرُودُونَ۲۲٥ إلى أن قال ﴿لِيَعْلَمَ الكُلُّ مَقَامَ صَبْرِي وَرِضَائِي وَفِدَائِي فِي سَبِيلِ اللهِ۲۲٦، فهل يمكن أن ينسب إلى صاحب هذا البيان بأنه يمشي على غير الصراط الإلهي أو أنه طلب أمرا بغير رضائه؟ إن في هذه الآية لمكنون نسيم انقطاع، بحيث إذا هب لينفق جميع هياكل الوجود أرواحهم، وينقطعون عن أنفسهم. فانظروا الآن إلى الناس كيف أنهم كالنسناس في أفعالهم الدنيئة، وجاحدون للحق غاية الجحود، بحيث يغضون الطرف عن كل هذا، ويركضون خلف جيف عديدة، يرتفع من بطونها ضجيج أموال المسلمين. ومع هذا كم من مفتريات غير لائقة ينسبونها إلى المطالع القدسية. كذلك نذكر لك ما اكتسبت أيدي الذين هم كفروا، وأعرضوا عن لقاء الله في يوم القيامة، وعذبهم بنار شركهم، وأعد لهم في الآخرة عذابا تحترق به أجسادهم وأرواحهم ذلك بأنهم قالوا إن الله لم يكن قادرا على شيء وكانت يده عن الفضل مغلولة.


هذا وإن الاستقامة على الأمر حجة كبيرة وبرهان عظيم كما قال خاتم الأنبياء (شيبتني الآيتان)۲۲۷. التي كل واحدة منها مشعرة بالاستقامة على أمر الله كما قال: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ۲۲٨.


فانظر الآن كيف قد بلغت هذه السدرة الرضوانية السبحانية أمر الله في أول شبابها، وكم ظهر من الاستقامة من ذاك الجمال، جمال الأحدية، بحيث أنه قام كل من على الأرض على منعه، ولم يأت ذلك بثمر أو فائدة بل كلما كان يرد منهم من الإيذاء على تلك السدرة، سدرة طوبى، كلما كان يزداد شوقه، ويزداد اشتعال نار حبه. وكل هذا واضح لا ينكره أحد إلى أن فدى أخيرا بروحه وصعد إلى الرفيق الأعلى.


ومن جملة الدلائل على أحقية ظهوره ظهور الغلبة والقدرة والإحاطة التي أظهرها من نفسه بنفسه مظهر الوجود، ومظهر المعبود في أكناف العالم وأقطاره. فحينما ظهر في شيراز ذاك الجمال الأزلي في سنة الستين وكشف الغطاء، فإنه في قليل من الزمان قد ظهرت في جميع البلاد آثار الغلبة والقدرة، والسلطنة والاقتدار من ذاك الجوهر، جوهر الجواهر، وبحر البحور، بحيث أنه قد ظهرت من كل بلد آثار وإشارات ودلالات وعلامات من تلك الشمس اللاهوتية. وكم من رشحات علمية من ذلك البحر، بحر العلم اللدني، قد أحاطت جميع الممكنات، مع أن جميع العلماء وأعزة القوم في كل بلد ومدينة قد قاموا على ردهم ومنعهم، وشدوا أزر الغل والحسد والظلم على دفعهم. وكم من نفوس قدسية قتلوها بتهمة الظلم، مع أنها كانت جواهر العدل. وكم من هياكل الروح قد أهلكوها بأشد العذاب، وما بدا منها إلا خالص العلم والعمل. ومع كل هذا كان كل واحد من أولئك الوجودات ذاكرا ومشغولا بذكر الله إلى النفس الأخير، وطائرا في هواء التسليم والرضا. وقد أثر في هذه الوجودات وتصرف فيها على نحو لم يكن لهم مراد غير إرادته، ولم يبغوا أمرا غير أمره. رضوا برضائه، وهامت قلوبهم بذكره.


ففكر الآن قليلا. هل ظهر من أحد في الإمكان مثل هذه القدرة والإحاطة؟ فإن جميع هذه القلوب المنزهة، والنفوس المقدسة، قد أسرع إلى موارد القضاء بكمال الرضا. وما ظهر منها في مواقع الشكاية إلا الشكران، وما شوهد منها في مواطن البلاء إلا الرضاء. وليس بخاف على أحد مقدار الغل والبغض والعداوة الذي كان يظهره كل أهل الأرض نحو هؤلاء الأصحاب بدرجة أنهم كانوا يعدون الأذية والأذى لتلك الطلعات القدسية المعنوية علة الفوز والنجاة، وسببا للفلاح والنجاح الأبدي. وهل وقع في البلاد في أي تاريخ من عهد آدم إلى الآن مثل هذه الغوغاء؟ وهل ظهر بين العباد مثل هذه الضوضاء؟ ومع كل هذه الأذية والإيذاء فإنهم كانوا عرضة للعن من جميع الناس، وهدفا لملامة كل العباد. كأن الصبر قد ظهر في عالم الكون من اصطبارهم، والوفاء قد وجد في أركان العالم من أفعالهم.


وخلاصة الكلام عليك بأن تفكر في جميع هذه الوقائع الحادثة والحكايات الواردة، حتى تطلع على عظمة الأمر وسموه، كي ينفخ في وجودك روح الاطمئنان بعناية الرحمن، وتجلس وتستريح على سرير الإيقان. وعلاوة على كل هذه المطالب المقررة، والدلائل المذكورة، فالله الأحد لشاهد بأنك لو تفكر مليا لترى أن إنكار أهل الأرض وسبهم هذا، ولعنهم لهؤلاء الفوارس، فوارس ميدان التسليم والانقطاع، لهو أعظم دليل وأكبر حجة على أحقيتهم. وإنك في أية لحظة تتفكر في اعتراضات جميع الناس من العلماء والفضلاء والجهال تزداد ثبوتا ورسوخا وتمكينا في هذا الأمر. لأن كل ما قد وقع قد أخبر به من قبل معادن العلم اللدني، ومهابط الأحكام الأزلية.


ولو أن هذا العبد لا يريد أن يذكر الأحاديث التي وردت من قبل، ولكن نظرا لمحبة ذاك الجناب نتلو عليك بضعة من الروايات التي تناسب هذا المقام مع أنه في الحقيقة لا حاجة لذكرها لأن كل ما قد ذكر يكفي الأرض ومن عليها. وفي الحقيقة قد ذكرت جميع الكتب وأسرارها في هذا المختصر بحيث لو يتأمل أحد قليلا ليدرك مما ذكر أسرار الكلمات الإلهية والأمور الظاهرة من ذاك السلطان


%
تقدم القراءة