نص كتاب الإيقان



قليلة لأهوائهم، فإنك تسمع ماذا يقولون وماذا يفعلون. وما هذا إلا من رؤساء الناس في الدين، يعني من أولئك الذين ما اتخذوا لهم إلها إلا الهوى، ولا عرفوا لهم مذهبا غير الذهب، واحتجبوا بحجبات العلم، وتاهوا في ضلالة كما يقول رب الأنام بتصريح تام، ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ۲۱۱ يعني أما رأيت ذاك الغافل الذي اتخذ إلهه أهواء نفسه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون.


أما معنى ﴿وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ۲۱۲ فإنه وإن كان في الظاهر كما ذكر، ولكن عند هذا الفاني، المقصود من هذه الآية، هم علماء العصر الذين أعرضوا عن جمال الحق وتمسكوا بعلومهم المنبعثة من النفس والهوى واحتجوا على نبأ الله وأمره ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ۲۱۳. وكذلك يقول ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُّفْتَرًى۲۱٤. والحق يقول: وإذا تتلى الآيات القدسية الأحدية عليهم، يعني أولئك الكفرة الفجرة، يقول أولئك المشركون الغافلون عن الحق ما هذا رسول من عند الله، إنما هو رجل يريد أن يمنعكم عما كان يعبده آباؤكم، وقالوا ما هذا إلا كذب مفترى.


فاسمع النداء القدسي الإلهي، واللحن المليح الصمداني، كيف أنه بالتلويح قد أنذر المكذبين بالآيات وتبرأ عن المنكرين للكلمات القدسية. ولاحظ بعد الناس عن كوثر القرب وإعراض أولئك المحرومين واستكبارهم على ذلك الجمال القدسي، مع أن ذاك الجوهر، جوهر اللطف والكرم، قد كان يهدي هياكل العدم إلى ساحة القدم، ويدل أولئك الفقراء الحقيقيين إلى شريعة الغنى القدسية. ومع ذلك كان يقول بعضهم هذا رجل مفتر على رب العالمين. وبعضهم يقول هذا يمنع الناس عن شريعة الدين والإيمان، والآخرون ينسبون إليه الجنون وأمثال ذلك.


كذلك نشاهد اليوم كم من لغو القول قد قالوه على ذاك الجوهر، جوهر البقاء، وكم من مفتريات وذنوب نسبوها إلى منبع العصمة ومعدنها. مع أنه في كتاب الله ولوح القدس الصمداني وفي جميع أوراقه وكلماته قد أنذر المكذبين بالآيات المنزلة والمعرضين عنها وبشر المقبلين إليها. ومع هذا كم من الاعتراضات قد اعترضوا بها على الآيات المنزلة من السموات القدسية البديعة. والحال أن عين الإمكان ما رأت مثل هذا الفضل، وقوة سمع الأكوان ما سمعت بمثل هذه العناية. إذ أن الآيات كانت جارية ونازلة من غمام الرحمة الرحمانية بمثابة غيث الربيع. لأن الأنبياء من أولي العزم، الذين عظمة قدرهم ورفعة مقامهم واضحة ولائحة كالشمس، يفتخر كل واحد منهم بكتاب مشهود، متداول بين الأيدي، آياته محصية. بينما قد نزلت الآيات من هذا الغمام الرحمانية على قدر لم يحصها أحد للآن. حيث أن المتداول منها في اليد إلى الآن نحو عشرين مجلدا، وكم منها لم تصل إليه الأيدي، وكم منها أيضا قد نهب وسلب ووقع بأيدي المشركين، ولا يعلم ما فعلوا به.


فيا أخي ينبغي التأمل والتفكر والالتجاء إلى المظاهر الإلهية لعل نتعظ من المواعظ الواضحة في الكتاب، ونتنبه من النصائح المذكورة في الألواح، ولا نعترض على منزل الآيات، ونستسلم لأمره بالروح. ونقبل حكمه بكل روح وريحان، ونذعن له، لعل نرد في فضاء الرحمة، ونسكن في شاطئ الفضل، وإنه بعباده لغفور رحيم.


وكذلك يقول: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ۲۱٥؟ فما أوضح المقصود في هذه الآية، وما أظهر برهان حجية الآيات المنزلة. ولقد نزلت هذه الآية في وقت كان فيه الكفار يؤذون المسلمين، وينسبون إليهم الكفر، كما كانوا ينسبون لأصحاب حضرته بأنهم صاروا كافرين بالله، ومؤمنين وموقنين بساحر كذاب. وفي صدر الإسلام لما كان الأمر بحسب الظاهر لم تكن له قوة، فإنهم كانوا كلما لقوا أصحاب تلك الحضرة في أي مقام ومكان، كانوا يعملون على نهاية الأذية والزجر، والرجم والسب لأولئك المقبلين إلى الله. فنزلت في هذا الحين هذه الآية المباركة من سماء الأحدية، وعلمت أصحاب تلك الحضرة ببرهان واضح، ودليل لائح، أن يقولوا للكافرين والمشركين: هل تؤذوننا وتظلموننا وما صدر منا عمل، إلا أن آمنا بالله وآياته النازلة علينا من لسان محمد؟ وكذلك آمنا بالآيات النازلة على أنبيائه من قبل بحيث يكون المقصود أن ما علينا تقصير إلا أننا اعتبرنا الآيات الجديدة البديعة الإلهية النازلة على محمد، والآيات النازلة من قبل على الأنبياء، بأنها جميعها من عند الله، وصدقنا بها، وأذعنا لها.


هذا هو الدليل الذي علمه سلطان الأحدية لعباده، مع ذلك هل من الجائز أن يعرضوا عن هذه الآيات البديعة التي أحاطت الشرق والغرب، ويعدوا أنفسهم من أهل الإيمان؟ أو أنهم يؤمنون بأن منزل الآيات لا يحسب المقرين بها من أهل الإيمان بناء عن هذا الاستدلال الذي قرره؟ حاشا ثم حاشا أن يطرد المقبلين إلى آيات الأحدية، والمقرين بها عن أبواب رحمته، أو يهدد المتمسكين بالحجة المثبتة. إذ أنه مثبت الحق بآياته ومحقق الأمر بكلماته، وإنه لهو المقتدر المهيمن القدير.


وكذلك يقول عز من قال ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الّذينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ۲۱٦. وإن أكثر الآيات الفرقانية لدالة على هذا المطلب ومشعرة به. وهذا العبد قد اقتصر على هذه الآيات المذكورة. فانظر الآن هل ذكر في الكتاب بأجمعه أمر آخر غير الآيات التي جعلها حجة لمعرفة مظاهر جماله حتى يعترضوا ويتمسكوا به؟ بل إنه في كل المواقع قد جعل النار موعدا ومقرا للمنكرين بالآيات والمستهزئين بها كما هو معلوم.


والآن لو يأتي إنسان بالآلاف المؤلفة من الآيات، والخطب والصحايف والمناجاة، دون أن يكون قد تعلمها من أحد بالعلوم الاكتسابية، فبأي دليل يستدل به الذين يعرضون عنها، ويحرمون أنفسهم من هذا الفيض الأكبر؟ وماذا يقولون في الجواب من بعد عروج الروح من الجسد الظلماني؟ أيتمسكون بقولهم إنا تمسكنا بالحديث الفلاني، ولما لم نجد تحقق معناه بحسب الظاهر لذا اعترضنا على مظاهر الأمر، وابتعدنا عن شرائع الحق؟ أما سمعت بأن من جملة البراهين والأدلة على أحقية بعض الأنبياء من أولي العزم، كان نزول الكتاب عليهم. وإن هذا لدليل مسلم به. وهل يجوز مع هذا أن يعترضوا على من ظهر منه مجلدات عدة؟ وأن يتبعوا في حقه أقوال شخص أحمق جمع بعض أقوال عن طريق الجهل لإلقاء الشبهة في القلوب؟ وأصبح شيطان العصر وسبب الغفلة للعباد وإضلال من في البلاد؟ وبذا يحرمون أنفسهم من شمس الفيض الإلهي. وبصرف النظر عن هذه المراتب، إذا هم احترزوا من هذه النفس القدسية، وأدبروا عن هذا النفس الرحماني، فإني لا أدري بمن يتمسكون، وإلى أي وجه يقبلون. بلى ﴿وَلِكُلِّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوليهَا۲۱۷، فقد هديناك السبيلين في هذين المنهجين. ثم أمش على ما تختار لنفسك، وهذا قول الحق وما بعد الحق إلا الضلال.


ومن جملة الأدلة على إثبات هذا الأمر، هو أنه في كل عهد وعصر كان يظهر فيه غيب الهوية في هيكل البشرية، كان يستضيء بضياء شمس النبوة، ويهتدي بأنوار قمر الهداية، ويفوز بلقاء الله بعض من الذين لا يعرفهم أحد، وليس لهم شأن بين القوم، ولا علاقة لهم بالدنيا وما فيها. لهذا كان يستهزئ بهم علماء العصر وأغنياء الوقت، كما يقول عن لسان أولئك الضالين ﴿فَقَالَ الملَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قُومِهِ مَا نَراكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُم أَرَاذِلْنَا بِادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُم عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ۲۱٨ فكانوا يعترضون ويقولون لأولئكم المظاهر القدسية، إنه ما اتبعكم إلا أراذلنا الذين لا يعتنى بشأنهم. ومقصودهم من هذا أنه لم يؤمن بكم علماء القوم، ولا أغنياؤهم ولا ذوو الشأن منهم. وكانوا يستدلون بهذا الدليل وأمثاله على بطلان من له الحق.


وأما في هذا الظهور الأظهر، والسلطنة العظمى، فإن جمعا من العلماء الراشدين، والفضلاء الكاملين، والفقهاء البالغين، قد رزقوا من كأس القرب والوصال، وفازوا بالعناية العظمى، وانقطعوا عن الكون والإمكان في سبيل المحبوب. ولنذكر بعضا من أسمائهم، عسى أن يكون ذلك سببا لاستقامة الأنفس المضطربة والنفوس غير المطمئنة.


فمن جملتهم جناب ملا حسين الذي أصبح محلا لإشراق شمس الظهور. لولاه ما استوى الله على عرش رحمانيته وما استقر على كرسي صمدانيته. وجناب آقا سيد يحيى الذي كان وحيد عصره وفريد زمانه، وملا محمد علي الزنجاني، وملا علي البسطامي، وملا سعيد البارفروشي، وملا نعمة الله المازندراني، وملا يوسف الأردبيلي، وملا مهدي الخوئي، والسيد حسين الترشيزي، وملا مهدي الكندي، وأخوه ملا باقر، وملا عبد الخالق اليزدي وملا علي البرقاني، وأمثالهم ممن يبلغ عددهم قريبا من أربعماية نفس، أسماؤهم جميعا مثبوتة في اللوح المحفوظ الإلهي. وهؤلاء كلهم قد اهتدوا بشمس الظهور وأقروا وأذعنوا لها على شأن انقطع أكثرهم عن أموالهم وأهليهم، وأقبلوا إلى رضى ذي الجلال، وقاموا بتضحية الأرواح في سبيل المحبوب. وأنفقوا جميع ما رزقوا به على شأن كانت صدروهم هدفا لسهام المخالفين، ورؤوسهم زينة لسنان المشركين. ولم تبق أرض إلا وقد شربت من دم هذه الأرواح المجردة، ولم يبق سيف إلا وقد مر على رقابهم. دليل صدق قولهم فعلهم. فهل شهادة هذه النفوس القدسية الذين أنفقوا أرواحهم في سبيل المحبوب على هذه الكيفية، والذين تحير العالم كافة من بذلهم أرواحهم ونفوسهم، هل شهادتهم لا تكفي لهؤلاء العباد من أهل هذا العصر؟ وأما إنكار بعض العباد الذين يبيعون دينهم بدرهم، ويبدلون البقاء بالفناء، ويستبدلون كوثر القرب بالعيون المالحة، وليس لهم مراد إلا أخذ أموال الناس، كما تشاهد أن كل واحد منهم مشغول بزخارف الدنيا وبعيد عن الرب الأعلى.


فأنصف الآن، أي الشهادتين مقبولة ومسموعة؟ أشهادة الذين وافق قولهم فعلهم، وطابق ظاهرهم باطنهم على نحو تاهت العقول في أفعالهم، وتحيرت النفوس في اصطبارهم، وبما حملت أجسادهم؟ أم شهادة هؤلاء المعرضين؟ الذين لا يتنفسون إلا بأهواء أنفسهم، والذين ليس لهم نجاة من قفص الظنونات الباطلة، والذين لا يرفعون رأسهم عن الفراش نهارا إلا للسعي في طلب الدنيا الفانية، كالخفاش الظلماني، والذين لا يستريحون ليلا إلا للسعي في تدبيرات الأمورات الدنيئة. مشغولون بالتدبير النفساني وغافلون عن التقدير الإلهي. بالنهار يشتغلون في طلب المعاش بأرواحهم. وفي الليل يأخذون في تزيين أسباب الفراش. ففي أي شرع وملة يجوز التمسك بإعراض هذه النفوس المحدودة؟ وغض الطرف عن إقبال وتصديق


%
تقدم القراءة