نص كتاب الإيقان



ملاحظة صحيحة لترى أن تفطر هذه السماء أعظم من تفطر السماء الظاهرة. تأمل قليلا، كيف أن الدين الذي ارتفع سنينا، ونشأ ونما في ظله الجميع، وتربوا بأحكامه المشرقة في تلك الأزمنة، ولم يسمعوا من آبائهم وأجدادهم إلا ذكره، بدرجة لم تدرك العيون أمرا غير نفوذ أمره، ولم تسمع الآذان إلا أحكامه، ثم تظهر بعد ذلك نفس تفرق وتمزق كل هذا بقوة وقدرة إلهية، بل قد تنفيه كله وتنسخه. فكر بربك أيهما أعظم؟ أهذا أم ذاك الذي تصوره هؤلاء الهمج الرعاع من تفطر السماء؟ وأيضا تفكر في مصاعب ومشقات أولئك الطلعات، الذين أقاموا حدود الله أمام جميع أهل الأرض من غير ناصر ولا معين في الظاهر، ومع ما ورد على أولئك الوجودات المباركة اللطيفة الرقيقة من كل أذى، فإنهم صبروا بكمال القدرة، وتحملوا بنهاية الغلبة.


كذلك اعرف معنى تبديل الأرض، الذي هو عبارة عن تبديل أراضي القلوب، بما نزل عليها من أمطار المكرمة الهاطلة من غمام الرحمة من تلك السماء، إذ تبدلت أراضيها بأرض المعرفة والحكمة. فكم نبت في رياض قلوبهم من رياحين التوحيد، وكم تفتح في صدورهم المنيرة من شقائق حقائق العلم والحكمة. وإذا لم تكن أراضي قلوبهم قد تبدلت، فكيف يقدر رجال ما تعلموا حرفا، وما رأوا معلما، وما دخلوا أية مدرسة، أن يتكلموا بكلمات ومعارف لا يستطيع أحد أن يدركها، بل كأنهم قد خلقوا من تراب العلم السرمدي، وعجنوا من ماء الحكمة اللدنية. ولهذا قيل (العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء)۳٦. وهذا النوع من العلم هو الذي كان ولا يزال ممدوحا، لا العلوم المحدودة الحادثة من الأفكار المحجوبة الكدرة، التي تارة يسرقونها من بعض، ويفتخرون بها على الغير.


فيا ليت صدور العباد تتقدس وتتطهر من نقوش هذه التحديدات والكلمات المظلمة، لعل تفوز بتجلي أنوار شمس العلم والمعاني، وجواهر أسرار الحكمة اللدنية. فانظر الآن، لو لم تتبدل الأراضي الجرزة لهذه الوجودات، كيف يمكن أن تصبح محلا لظهور أسرار الأحدية. وبروز جواهر الهوية. ولهذا قال تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ۳۷. كذلك بفضل نسمات جود سلطان الوجود، حتى الأرض الظاهرة قد تبدلت، لو أنتم في أسرار الظهور تتفكرون.


وهكذا فأدرك معنى هذه الآية التي تقول ﴿وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ۳٨. وهنا يجب الإنصاف قليلا، لأنه لو كان المقصود منها ما أدركه الناس، فأي حسن يترتب على ذلك؟ فضلا عن أنه من المسلم به أنه لا ينسب إلى ذات الحق المنيع يد مرئية بالبصر الظاهر، تعمل هذه الأمور، لأن الإقرار بمثل هذا الأمر يكون كفرا محضا، وإفكا صرفا. وإذا قلنا أن هذا يرجع إلى مظاهر أمره الذين يكونون مأمورين بهذا الأمر في يوم القيامة، فإن هذا أيضا يكون بعيدا للغاية، ولا يأتي بفائدة بل أن المقصود من الأرض هو أرض المعرفة والعلم، ومن السموات هو سموات الأديان. فانظر الآن كيف أن أرض العلم والمعرفة التي كانت مبسوطة من قبل، قد قبضها بقبضة القدرة والاقتدار، وبسط أرضا منيعة جديدة في قلوب العباد، وأنبت رياحين جديدة، وورودا بديعة، وأشجارا منيعة في الصدور المنيرة.


وكذلك فانظر كيف قد طويت بيمين القدرة سماوات الأديان المرتفعة من قبل، وارتفعت سماء البيان بأمر الله، وتزينت بالشمس والقمر والنجوم من أوامره البديعة الجديدة. هذه أسرار الكلمات قد أصبحت مكشوفة وظاهرة بغير حجاب، لعل تدرك صبح المعاني، وتطفئ سرج الظنون والوهم، والشك والريب، بقوة التوكل والانقطاع، وتوقد في مشكاة قلبك وفؤادك مصباح العلم واليقين الجديد.


واعلم بأن المقصود من جميع هذه الكلمات المرموزة، والإشارات العويصة الظاهرة من المصادر الأمرية، إن هو إلا امتحان للعباد، كما قد ذكر، حتى تعرف أراضي القلوب الجيدة المنيرة من الأراضي الجرزة الفانية، هذه سنة الله بين عباده في القرون الخالية، يشهد بذلك ما هو مسطور في الكتب.


ثم تأمل آية القبلة، وكيف أنه بعد هجرة شمس النبوة المحمدية من مشرق البطحاء إلى يثرب، استمر في التوجه إلى بيت المقدس في وقت الصلاة، حتى جرى لسان اليهود بكلمات غير لائقة لا يناسب ذكرها في هذا المقام، ويدعو إلى التطويل. ولما تكدر حضرته كثيرا من ذلك، شخص ببصره إلى السماء متفكرا متحيرا، فنزل بعدئذ جبريل، وتلى عليه هذه الآية ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السّماء فَلَنُولينَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا۳٩ وبعدئذ، بينما كان حضرته قائما يصلي ذات يوم فريضة الظهر مع جمع من أصحابه، وأدى ركعتين منها، نزل عليه جبريل وقال ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ٤۰، فانحرف حضرته أثناء الصلاة عن بيت المقدس، وولى وجهه شطر الكعبة وفي الحين حصل تزلزل واضطراب بين أصحابه بدرجة أن جمعا منهم تركوا الصلاة وأعرضوا. فهذه الفتنة لم تكن إلا امتحانا للعباد، وإلا فذاك السلطان الحقيقي كان قادرا على أن لا يغير القبلة أبدا، وأن يبقى بيت المقدس قبلة في ذلك العصر، وأن لا يسلب منه خلعة القبول هذه.


هذا وفي عهد أكثر الأنبياء، الذين بعثوا بالرسالة بعد موسى، مثل داود وعيسى ودونهم من الأنبياء العظام، الذين جاءوا بين هذين النبيين، لم يحدث أن تغير حكم القبلة، بل كان كل هؤلاء المرسلين من جانب رب العالمين، يأمرون الناس بالتوجه إلى تلك الجهة، إذ أن كل الأراضي في نظر ذلك السلطان الحقيقي هي في درجة واحدة، إلا أرضا يكون قد أختصها بأمر في أيام ظهور مظاهره، كما قال تعالى: ﴿وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ٤۱. ومع تحقق هذه الأمور فلماذا حصل هذا التبديل الذي تسبب منه جزع العباد وفزعهم، وصار علة تزلزل الأصحاب واضطرابهم. أجل إن مثل هذه الأمور التي هي سبب وحشة جميع النفوس لم تقع إلا لكي يرد الكل على محك امتحان الله، كي يحصل التمييز والفصل بين الصادق والكاذب. ولهذا قال بعد اختلاف الناس، ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الّتي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ٤۲ التي مضمونها إنا ما غيرنا وما نسخنا القبلة التي كانت بيت المقدس إلا لنعلم من يتبعك ممن ينقلب على عقبيه. أي من يعرض عنك ولا يطيعك، ويبطل الصلاة ويفر منك، ﴿حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ٤۳.


وإنك لو تأملت قليلا في هذا المطلب والبيان، لشاهدت أبواب المعاني والتبيان مفتوحة أمام وجهك، وترى كل العلوم وأسرارها بلا ستر ولا حجاب. وإن هذه الأمور ليست إلا لتربية النفوس وخلاصهم من قفص النفس والهوى. وإلا فإن ذاك السلطان الحقيقي لم يزل كان غنيا بذاته عن معرفة الموجودات، ولا يزال يكون مستغنيا بكينونته عن عبادة الممكنات. فنسمة من نسمات غنائه تجعل كل العالم يفتخر بخلعه الغنى. وقطرة واحدة من بحر جوده، تهب كل الوجود شرف الحياة الباقية. ولكن لما كان المقصود هو تمييز الحق من الباطل، والشمس عن الظل، لهذا كانت الامتحانات النازلة في كل حين من قبل رب العزة جارية كالغيث الهاطل.


وإذا ما تدبر الناس وتفكروا ولو قليلا في حياة الأنبياء السالفين وظهورهم فإن الأمر يسهل كثيرا على أهل الديار، بدرجة أنهم لا يحتجبون من الأفعال والأقوال التي تخالف النفس والهوى، ويحرقون كل الحجبات بنار سدرة العرفان، ويستريحون على عرش السكون والاطمئنان. فمثلا: موسى بن عمران الذي كان أحد الأنبياء العظام، وصاحب كتاب، بينما كان مارا في السوق ذات مرة في أوائل أيامه قبل بعثته رأى اثنين يتخاصمان، فطلب أحدهما من موسى أن يعاونه على خصمه، فأعانه حضرته بما أدى إلى قتله كما هو مسطور في الكتاب، ولا نذكر تفصيله لئلا يكون سببا للتعويق، وتعطيل المقصود. فاشتهر هذا الخبر في المدينة، وغلب على حضرته الخوف، كما نص في الكتاب إلى أن أتاه الخبر ﴿إنّ الملأ يأتمرون بِكَ ليَقْتُلُوكَ٤٤ فخرج من المدينة، وأقام في مدين في خدمة شعيب، وفي أثناء عودته، ورد بالوادي المبارك برية سيناء، وشاهد تجلي سلطان الأحدية من شجرة لا شرقية ولا غربية، واستمع النداء الروحاني المنعش للروح من النار الموقدة الربانية، وتلقى الأمر بأن يهدي الأنفس الفرعونية، حتى ينقذ العباد من وادي النفس والهوى، ويدخلهم في رياض الروح والهدى المحيية للقلوب، ويخلص جميع من في الإبداع بسلسبيل الانقطاع من حيرة البعد، ويوصلهم إلى دار سلام القرب. ولما ورد على بيت فرعون، وبلغه ما كان مأمورا به، أطلق فرعون عنان لسانه بغير أدب وقال: ألم تك أنت قتلت نفسا وكنت من الكافرين؟ كما أخبر رب العزة عن لسان فرعون لما اعترض على موسى بقوله: ﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ٤٥ قال: ﴿فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ٤٦.


فتفكر الآن في الفتن الإلهية وبدائع امتحاناته كيف أن شخصا عرف بقتل النفس، واعترف أيضا بالظلم كما هو مذكور في الآية، وتربى أيضا في بيت فرعون بحسب الظاهر نحوا من ثلاثين سنة أو أقل، ونشأ ونما في نعمائه، ثم يجتبيه ربه بغتة من بين العباد، ويأمره بأمر الهداية الكبرى، والحال أن ذاك السلطان المقتدر، كان قادرا على أن يمنع موسى من القتل، حتى لا يكون مشهورا بين العباد بهذا الاسم، الذي هو سبب وحشة القلوب، وعلة احتراز النفوس.


ولننتقل الآن إلى حالة مريم لنشاهد كيف أن هذه الطلعة الكبرى تمنت الموت من عظمة الأمر وشدة التحير، كما يستفاد من الآية المباركة التي ناحت بها مريم بعد ولادة عيسى، ونطقت بهذه الكلمة ﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا٤۷. قسما بالله، إن الأكباد لتذوب من استماع هذا الكلام، والفرائص لترتعد. وما كان هذا الحزن والاضطراب إلا خشية من شماتة الأعداء، واعتراض أهل الكفر والشقاء. ثم تفكر أي جواب كان يمكن أن تقوله مريم للناس بشأن طفل ليس له أب معين! وكيف يمكن أن يقال لهم إنه من روح القدس! لهذا حملت مخدرة البقاء ذاك الطفل، ورجعت به إلى المنزل. فقال لها القوم لما وقعت عيونهم عليه ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا٤٨.


فانظر الآن إلى هذه الفتنة الكبرى، والامتحان الأعظم، واصرف نظرا عما مضى، وتفكر كيف أن نفس جوهر الروح، المعروف بين القوم بأن لا أب له، قد منحه الله النبوة وجعله حجته على كل أهل السموات والأرض. ثم تأمل بعدها في أمور مظاهر الظهور التي تظهر على خلاف


%
تقدم القراءة